أحمد بيضون: الذكاء الاصطناعي وسؤال المصير

0

أزْيَدُ من ثلاثمائةٍ وخمسين فاعلاً في صناعةِ الذكاءِ الاصطناعيِّ، في الولاياتِ المُتّحدةِ، وقّعوا، قَبْلَ أيّامٍ، تصريحاً موضوعهُ صناعتُهُم انطوى على كلمةٍ عاليةِ الجَرْسِ جدّاً هي كلمةُ “انطفاء” extinction  (بمعنى “فَناء” أو “انقِراض”)… والمهدّدُ بالانطفاءِ، أي بالفناءِ، في حُسْبانِ هؤلاءِ القومِ، هو الجنسُ البَشَرِيُّ، لا أكْثَرَ منهُ ولا أقلَّ، ومصدَرُ التهديدِ هو الصناعةُ التي يقبضُ موقِّعو التصريحِ على مقاليدِها ويُسابقُ بعضُهُم بعضاً في الرفعِ المُتسارعِ لسَويَّتِها نحْوَ ذُرىً جديدةٍ وفي مضاعفةِ خطرِها الذي ينوّه به التصريحُ بَعْدَ كلِّ طَفْرةٍ في نموِّ مُنْجَزِها الفَذّ.

يقعُ التصريحُ في 22 كلمةٍ لا غيرُ وهذه ترجمةٌ له: “ينبغي لتَخْفيفِ خطَرِ الانطفاءِ من جرّاءِ الذكاءِ الاصطناعيّ أن يكونَ ذا أوّليّةٍ عالميّةٍ على غِرارِ الأخطارِ المشتملةِ على المجتمَعاتِ بأَسْرِها من قَبيلِ الأوبئةِ العالَميّةِ أو الأسلحةِ النَوَويّة.” رعى التصريحَ “مركَزُ الأمانِ من الذكاءِ الاصطناعيّ” وهو منظّمةٌ لا تبغي الربحِ يُشيرُ وجودُها وتمَكُّنُها من جَمْعِ من جمَعَتْهُم على تبنّي هذا النصّ إلى حضورٍ مُتنامٍ لهَمِّ هذا الذكاءِ ولضَرورةِ حَمْلِهِ على مَحْمَلِ الجِدِّ الأقصى. تشهدُ للأمرِ نفسِهِ استقالةُ جوفري هنتون، وهو واحدٌ من المدعُوّينَ “عَرّابي الذكاءِ الاصطناعيِّ”، من منصبِه في “غوغل” وذلكَ طَلَباً لمزيدٍ من الطلاقةِ في التعبيرِ عن الأخطارِ العُموميّةِ التي تنطوي عليها صناعتُه. وأمّا قِصَرُ التصريحِ فأريدَ بِهِ البُعْدُ عن تمويهِ القَصْدِ أو تخفيفِ الوَقْعِ بأيّةِ زوائدَ قد يحمِلُها التطويلُ أو التفصيل. لا ماءَ إذَنْ في نبيذِ هذه الجماعة: بل علينا أن نَجْرَعَهُ صِرْفاً جَرْعةً واحدةً وأن نُطيقَ مفعولَهُ وإن يَكُنْ لا يُطاق.

هذا وليسَت هذه البادرةُ هي الأولى في بابِها. ففي آذارَ الفائتِ وقّعَ ألفٌ من ذوي العلاقةِ أيضاً بياناً أكثرَ تفصيلاً في الموضوعِ نفسِهِ، سُرْعانَ ما كَسَفَ حُضورُ إيلون ماسك، ببلايينِهِ الكثيرةِ بينَهُم، سائرَ الأسماء. وهذا مع العِلْمِ أنّ ماسك ابْنُ هذا المجالِ أصلاً وأنّه واحدٌ من مؤسّسي شركةِ Open AI التي أطلقت في تشرين الثاني من السنةِ الماضيةِ التطبيقَ المسَمّى “تشات جي بي تي”، مطلقةً معه وبسبِبِ مزاياهُ المباغتةِ آنذاك، هذا الجدَلَ في الذكاءِ الاصطناعيِّ وعواقبِ نُمُوِّهِ على نطاقِ العالَم. هذا وقد باتَ هذا “التشات بوت” في جيلِهِ الرابعِ اليومَ وبرزَت له مَزايا جديدةٌ وظَهَرت برامجُ منافسةٌ له أطلقَ أهَمَّها العمالقة: آبل ومايكروسوفت وغوغل… ووظّفوا، في السباقِ لتطويرِها، عشراتِ البلايين.

على أنّ بيانَ الألفِ، ماسك وصحبِهِ، ظلّ ضَعيفَ الاستقطابِ نسبيّاً لمن يمكِنُ اعتبارُهُم “أهلَ المعرفة” في القطاعِ أي لكبارِ الباحثينَ والمهندسينَ وسائرِ ذوي الخبرةِ المُجَدِّدين. وهذه هي الثَغْرةُ التي سدَّها التصريحُ الأخير. فهو قد استقطَبَ ألمَعَ الأسماءِ في القطاعِ وهذه أسماءٌ يعرِفُها ذوو الاختصاصِ والمُلِمّون بِهِ وإن لم يَكُنْ صيتُها قد اخترق الحُجُبَ بَعْدُ إلى مجالِ العالَمِ على غِرارِ ما كانَ من أمرِ جوبز وغايتس من قَبْل. في كلّ حالٍ، يُرَجَّحُ أن تزدادَ إلحاحاً على انتباهِنا في المستقبل القريب أسماءٌ من قَبيلِ ألتْمان وهاسابيز وأموداي وهنتون وبنجيو، إلخ.

يبقى أنّ التصريحَ إذ طوى المسارَ كلُّهُ بِلَمْحِ البَصَرِ ليفضيَ، على الفورِ، إلى فناءِ البَشَريّةِ المحْتَمَلِ، ليسَ لَهُ أن يحجبَ عواقبَ أخرى لنُمُوِّ الذكاءِ الاصطناعيِّ يَتَعَذَّرُ الاستخفافُ بخَطَرِها. من ذلكَ معلوماتٌ لا أساسَ لها يدلي بها البرنامجُ المستشارُ ولا يؤمَنُ تصديقُها وعواقبهُ في جانبِ المستَشيرِ، وهي ما أخَذَ أهْلُ الحرفةِ أنْفُسُهم يُسَمّونَهُ “هَلْوَسةَ” التشات بوت! ولكنّ هذا يدخُلُ في بابِ القُصورِ الذي يعتَوِرُ الأجيالَ الحاليّةَ من البرامجِ ولا يمتَنِعُ تلافيهِ في أجيالٍ لاحقة. ومن ذلكَ أيضاً أفاعيلُ تفصيليّةٌ، ولكنّها قابلةٌ للتوسّعِ المضطرِدِ، من قَبيلِ الترويجِ لأكاذيبَ مسيئةٍ أو ضارّةٍ أو لتوجّهاتٍ مزكّيةٍ لأنواعٍ مختلفةٍ من العُنْفِ أو تعزيزِ فُرَصِ الغِشِّ والتزييفِ، في كلِّ مجال. من ذلك أيضاً وأيضاً تسهيلُ الحصولِ على أدواتٍ أو موادَّ خطرةٍ أو تصنيعِها، وتيسيرُ الحصولِ على مشوراتٍ، في المضمارِ الصحِّيِّ مَثَلاً، بلا ضَمانٍ للسلامةِ ولا تعيينٍ للمسؤوليّةِ، إلخ. ولكنّ هذا كلَّهُ، أو ما يُشاكِلُهُ، باتت تبيحُهُ الإنترنت من عهودٍ متباينةٍ ومن أمثلتِهِ التسهيلُ المعلومُ لما يُطلَقُ عليهِ اسمُ الإرهاب. وإنّما يخشى، من جانب الذكاءِ الاصطناعيِّ، تيسيرُ هذا كلِّهِ بحيثُ يصبِحُ في المُتَناوَلِ المُباشِرِ لأيٍّ كانَ ونشرُ ممارسَتِهِ على نطاقٍ غيرِ مسبوق.

مستوىً آخرُ ينذِرُ الذكاءُ الاصطِناعيُّ بالعَبَثِ به هو نظامُ المهنِ واستِخْدامُ البَشَر. وقد يبدو هذا غيرَ جديدٍ أيضاً. فلطالَما أفضَت الأتْمتةُ وتطوُّرُ التقاناتِ عموماً إلى الاستغناءِ عن البَشَرِ في أداءِ المَهامِّ الصناعيّةِ وغيرِها. ويكفي لمعاينةِ ذلك المقارنةُ بين ما كان عليهِ خطُّ التجميعِ في مصنعٍ للسيّاراتِ قَبْلَ خمسينَ سنةً أو ستّينَ وما هو عليهِ اليوم. ولكنّ الناظرينَ في هذا الأمْرِ لم يفُتْهُم أنّ “ذوي الياقاتِ البيضِ”، أي أصحابَ المهَنِ “الذهنيّة” هم الجمهورُ الأعظمُ المُهَدَّدُ بالصَرْفِ والانتِهاءِ إلى البطالةِ هذه المرّة. وهذا ما كان نوح يوفال هراري (وسواهُ) قد أبرزه، في كلِّ حالٍ، قَبْلَ سنينٍ من اليوم.

من حيثُ الأساسُ، نحْنُ أمامَ قَدَرٍ مقَدّر. فحتّى لو أفلحتِ الدُوَلُ في إنشاءِ وكالةٍ للذَكاءِ الاصطناعيّ موازيةٍ لوكالةِ الطاقةِ الذرّيّةِ أو لمُنَظَّمةِ الصحّةِ العالَميّةِ، يُسْتَبْعَدُ أن يكونَ في مستطاعِها أو في خطَّتِها مَنْعُ أصحابِ الأعمال من التسابقِ في اختصارِ الكلفةِ بتقليصِ الاستخدامِ البشريّ، وهو ما سيزيدُ تطوُّرُ الذكاءِ الاصطناعيِّ وانتشارُ تطبيقاتِهِ إلى سائرِ ميادينِ الإنتاجِ والخدمةِ من إمكانِهِ بل من التوسُّعِ الفادِحِ فيه. عليهِ يتوقّعُ العارفونَ أن يخسَرَ عشراتُ الملايينِ من الأميركيّينَ وظائفَهُم، في مدىً منظورٍ، لصالحِ الفاتِحِ الجديدِ، حليفِ أصحابِ الأعمالِ قَبْلَ أيٍّ سواهم.  وفي الولاياتِ المتّحدةِ وفي غيرِها، سيبقى الواحدُ منّا يُسَرُّ بالقصيدة ينظمُها له التشات بوت في عيدِ ميلادِ زوجتهِ وهو غافِلٌ عَمّا يُعدِّهُ برنامجٌ آخرُ من العائلةِ نفسها قد يرتئي طرْدَهُ من عَمَلِهِ وإجبارَ زوجتِهِ على طَلَبِ الطَلاق!

ما الذي يطلُبُه التصريحُ الذي أصدَرَهُ الفاعلونَ أنفُسُهُم: صانعو الذكاءِ الاصطناعيِّ بمنافعِهِ ومَضارِّهِ، مبرِّئينَ ذِمَّتَهُم اليُسرى ممّا تفعلُه يدُهُم اليُمْنى؟ ما يطلبُهُ هؤلاءِ يتعَلّقُ بأصْلِ ما هُوَ الذكاءُ الاصطناعيُّ وهو أيضاً ما كانَ أشارَ إليهِ بيانُ الألفِ، قَبْلَ تصريحِ ال350، حينَ طلَبَ تعليقاً للأبحاثِ مدّتُه ستّةُ أشهُرٍ ترسى في خلالِها ضَماناتُ نموٍّ سليمٍ لهذا الطفلِ المهولِ الخَطَر. وأمّا أصلُ الذكاءِ الاصطناعيِّ وأصلُ المشكلةِ التي تُواجِهُ البشرَ من جَرّائهِ فهي أنّهُ قائمٌ على ما يُسَمّى “الشبَكات العُصْبونيّة” تشَبُّها بتكوينِ الدماغِ والجهازِ العَصَبيِّ البشَرِيّين. وهو ما يُبيحُ له معالجةَ “المعطَياتِ” التي تدخُلُ إليهِ بحيثُ يحوِّلٌها إلى “مَهارات”. وما تُبيحُهُ المَهاراتُ، بدورِها،  لل”اصطناعيِّ” هو نفسُ ما تُبيحُهُ لل”طبيعيِّ” أي إمكانُ “الاستقلالِ” بالأفعال. وتضافُ في حالةِ الاصطناعيِّ سُرْعةٌ تتيحُ وفراً عظيماً للوقتِ بالقياسِ إلى ما يستطيعُهُ البَشَر. فإذا تكاثرَت مهاراتُ الاصطناعيِّ واتّسَعَ مجالُها، أشرَفنا على ما يظْهَرُ أنّنا صائرونَ إليهِ حتماً: وهو الانتقالُ ممّا يُدْعى “الذكاءَ الاصطِناعيَّ الخُصوصيَّ” إلى ما يُدْعى “الذكاءَ الاصطناعيَّ العُموميّ”. وهو ما يضعُ بتصَرُّفِ أيٍّ كانَ، ناهيك بما يضعُهُ بتصرُّف الدُوَلِ والجماعاتِ المنظّمةِ، احتِمالاتِ خيرٍ وشرّ لم يُعْرَف لها نظيرٌ في ماضي البشر. وهو أيضاً قد يضَعُ نظائرَ لهذه الاحتمالاتِ بتصرُّفِ الذَكاءِ الاصطناعيِّ نفسِهِ، إذا هُوَ بَلَغَ من الاستِقلالِ مبْلَغاً بعينِه.

حتّى الآنِ تبدو مقاليدُ الذكاءِ الاصطناعيِّ بيدِ الأميركيّينَ وحدَهُم. وهذا على الرغْمِ من كونِ الشركاتِ المعنيّةِ بتطويره شركاتٌ عالميّةُ النطاقِ أصْلاً. وقد خرجَ إلى الميدان مؤخّراً تشات بوت صينيُّ المنبتِ ولكنّه سُرْعانَ ما خارت قواهُ وانكشَفَ تهالُكُه. غيرَ أنّ دوامَ هذه الحالِ سيكونِ من المُحالِ، على الأرجح. ولا بُدَّ من يومٍ يأتي يتحوّلُ فيه الذكاءُ الاصطناعيّ (وهو من الآنِ سلاحٌ متنامي القوّةِ في الحربِ الاقتصاديّةِ) إلى سلاحٍ متصدّرٍ في الحربِ العسكريّة. هذا ما يُنْذِرُ بهِ من الآنِ، بل من أمسِ، تولّي صِيَغٍ منهُ قيادةَ المُسَيّراتِ وتوجيهَ المقذوفات. ذاكَ، أي احتِمالُ العسكرةِ، بعضُ ما يتعيّنُ على ما يُسَمّى “مجتمعَ الدُوَل” أن يضبُطَهُ أيضاً. نقولُ “أيضاً” لأنّ ما سَبَقَ ذِكْرُهُ من عواقبَ أخرى تتعلّقُ باستِقرارِ الاجتِماعِ البَشَريِّ ورُبّما بمصيرِهِ ليس مّما سيَسَعُ الدولَ أن تهملَهُ، وهذا سواءٌ أشَمَلَهُ ما سمّاهُ “التصريحُ” الأخيرُ “انطفاءً” أمْ لم يشملْهُ.

إلى الآنِ لا شيءَ يبدو مضموناً من هذا كلّه. فحتّى مهلةُ الأشهرِ الستّةِ التي اقتَرَحّها “بيانُ الألْفِ” في آذار لم يُسْمَع ما يدلُّ على اقترانِها بتنفيذٍ ما… هذا ولعلّنا اقتصَرْنا ههُنا من حديثِ الذكاءِ الاصطناعيِّ على حديثِ أخطارِه. وفي هذا ظُلْمٌ لمُنْجَزٍ أوّلُ وجوهِهِ الظاهرةُ توسيعُهُ مداركَ البشرِ ومعارٍفَهُم وتنميتُهُ مهاراتِهم المختلفةَ، إذا هم أرادوا، فضلاً عن توفيرِهِ الوقتَ والجِهْدَ عليهم في كثيرٍ مّما يحتاجون إليه. لم نطلبْ هذا الظلمَ وإنّما ألجأَنا إليهِ حديثُ الحُمّى التي تثيرُها أخطارُ هذا المنجَزِ (وهي مَهولةٌ) بموازاةِ الحُمّى الأخرى التي تصحبُهُ في مسارِ نمُوّه. فكانَ حقّاً أن تُعيدَ قنبلةُ الذكاءِ الاصطناعيِّ هذهِ إلى الخاطِرِ قولةً لكلود ليفي-ستروس يَتَرَدَّدُ لها صدىً كلّما حصلَ ما يَرُدّ موضوعَ السلاحِ النوويِّ إلى دائرةِ الانتباه: وهي “أنّ العالمَ كانَ موجوداً قَبْلَ الإنسانِ وسيَبْقى بَعْدَه”…

*المدن