كثيرون يعرفون أن الرواية كما القصة القصيرة فن حديث، تقريباً برز في القرن التاسع عشر، وإن كانت الجحش الذهبي، فألف ليلة وليلة، ثم دون كيخوته، بئر السرد الأول الذائع الصيت، ما استقى منه الساردون فن الرواية والقص.
لكن كثيرين أيضاً، لا يعرفون سردية الرواية في ليبيا، التي تفوز بالسبق، فتحوز رواية محمد النعاس “خبز على طاولة الخال ميلاد”، بالجائزة الأولى لـ”البوكر 2022“. وقبل صدر عدد من الروايات، لكن التي حظيت منها بالطباعة في كتاب عام 1961، وكانت كتبت في الخمسينيات، “اعترافات إنسان” الرواية الرومانسية لمحمد فريد سيالة، وقد أعادت مجلة “الدوحة” طباعتها وتوزيعها مرفقة مع المجلة 2017.
في أثناء ذلك، كتب الناقد يوسف القويري حول نظرية الرواية بأن الرواية فن المدينة، فالسرد الروائي غير فن الحكاية والمقامة، حيث يهتم بالنسيج الاجتماعي، ويغوص في النفس البشرية، ويقوم بتشريح الشخصية الروائية، في نثر تقريري مكثف، ما يعني أنه بحاجة إلى تجربة عميقة، من ذا فمسألة العمر، عند من يستهدف كتابة الرواية، من لزوم ما يلزم، وهذا ما جعل القويري يرى أنه لا بد من أن يتجاوز الثلاثين!
ولعل دافعه إلى نظرة كهذه، غياب الرواية في الكتابة الليبية. وقبل لا يفوتني التنويه، إن كثيراً من الروايات، قد نشرت حينها مُسلسلة في الصحف والمجلات، كما جرى اعتياده في العالم وعند العرب.
“من مكة إلى هنا” رواية الصادق النيهوم، التي نشرت عام 1970 عن جريدة “الحقيقة”، الحجر الذي حرّك المياه الراكدة، فصدورها أثار جدلاً صاخباً، إلى درجة أن الشاعر علي الفزاني، اعتبر أن هذه الرواية بحاجة إلى ثلاثين عاماً! حتى تُفهم جيداً. وقد كتبت الرواية وصدرت في سياق زمن الرواية المنشغلة بالعلاقة بالآخر، وبمسألة الشرق والغرب، وفي نسيج واقعي قماشته الحداثة.
من ذا كانت “من مكة إلى هنا”، ما يشبه المعارضة لـ”موسم الهجرة إلى الشمال”، رواية الطيب صالح، التي ظهرت كأيقونة مفارقة في الرواية العربية، ومتميزة في الكتابة الروائية. وبطل “من مكة إلى هنا” الزنجي صياد السمك، مسألته الرئيسة مسألة دينية، لذا يولي وجهه لمكة، فيما بطل “موسم الهجرة إلى الشمال” الفرويدي، يولي وجهه إلى الشمال، حتى وهو يغرق في بحر النيل بعد عودته. والعلاقة الأسلوبية المشتركة للكاتبين باللغة الإنجليزية، يمكن استشرافها حتى من خلال البنية السردية، واكتشاف الفروق بينهما، كما هي بين د. هـ. لورانس وإرنست همينغواي.
بعد ذلك، كانت الرواية في ليبيا بطيئة وغائبة، فالقصة القصيرة ديوان نتاج الستينيات والسبعينيات، وأحمد إبراهيم الفقيه وخليفة الفاخري، ثم في السبعينيات عمر الككلي، هم نسيج وحده في فن القص العربي. ولعل الحصار الذي ضرب من زعيم انقلاب سبتمبر (أيلول) 1969 العسكري، قد خاط الحياة بالوجل والتوتر وعدم الاستقرار، ما أسهم في أن كتابة القصة القصيرة، فن السرد المشدود إلى أنفاس الشعر، قد نازع الشعر في أن يكون ديوان العرب.
لكن ذاكم الحصار، ما قطع أنفاس السارد والمسرود، سيشكل للرواية في ليبيا منزعاً من الخصوصية، لقد نضج السارد في كبد ومكابدة، وإنما على مهل. ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، انتشرت الرواية في العالم، بخاصة عقب هيمنة رواية الواقعية السحرية الأميركية اللاتينية، وكسر سيطرة المركز الأوروبي. الرواية منذئذ سارد روح البشرية، بعد إزاحة آلهة الشعر، من أكروبول سيادة الفنون كل القرون الماضية، لقد تنفس النثر الصعداء أخيراً. والبحث في مسببات ذاك طويل، وصعب المراس، وليس هنا مجاله، حيث نهتم وننحاز للنتائج: فوز رواية محمد النعاس “خبز على طاولة الخال ميلاد”، بالجائزة الأولى لـ”البوكر 2022”.
فك الحصار بالنسبة إلى السردية الليبية، تصاعد على يد إبراهيم الكوني، من يغزل من التراب والسكون رواية بدأت كي لا تنتهي، منذ خسوف الكوني الرباعية، فمن خلال سردياته اكتشف العالم الصحراء الكبرى، وعرف كيف ينطق الحجر، ويتجلى الخفي ويصدع الكتمان، الكوني يعيد نسج أساطير الزوال. ومن هذا ترجم من العربية، لغة كتابته، إلى ما يقارب الثمانين لغة، وعرفت روايته وتعدد قراؤه، كما لم يحصل لكثيرين غيره، فغدا صائد الجوائز، وإن نأت عنه “نوبل”، كما تنأى عن غيره، ممن لا يكتب بلغة أوروبية في الغالب.
الرواية في ليبيا عربية، وليس كما في المغرب العربي مثلاً، ما كتب كثير منها بالفرنسية. فليبيا حظيت باستعمار فقير وفاشٍ، وعليه لم يعِر الثقافة والتعليم بالتالي لغته اهتماماً، لكن لكل قاعدة استثناء، الذي هو الروائي هشام مطر، الليبي من يكتب بالإنجليزية، ومن كتب روايات ثلاث فقط. روايته الأولى “أشباه الرجال”، استحوذت على اهتمام جم، فوصلت القائمة القصيرة لـ”البوكر العالمية” (الإنجليزية) 2006، وفازت روايته السيراوية “العودة” 2017 بجائزة “بوليتزر”، وهو أول عربي يتحصّل عليها.
السؤال ما الذي يميز هذه الرواية؟ الجواب ليس لرواية ما جنسية التي يحملها عادة البشر، ولهذا فإن الرواية في ليبيا، تميزت بالكتّاب الذين كتبوها، كما تتميز كل الفنون والآداب والعلوم. لقد تميز الكتاب، من خرجوا من أتون المحن، ليكتبوا ملاحمهم الخاصة، التي لا تضيف لها أي جائزة كثيراً، لكنها كمبدع تضيف للإبداع وللرواية.
ثمة رأي آخر لمحمد النعاس، كتبه تعليقاً على فوزه بـ”البوكر”، جاء في مقدمته “بلدي وما بلدي سوى حقق الطيوب… ومواقع الأقدام للشمس اللعوب… أيام كانت طفلة الدنيا الطروب… فالحب والأشعار في بلدي دروب… والياسمين يكاد من وله يذوب، ولا يتوب… الناس في بلدي يحيكون النهار… حباً مناديلاً وشباكاً لدار… والفل يروي كل ألعاب الصغار… بهذه القصيدة سحرني علي صدقي عبد القادر، الشاعر الليبي العظيم، والذي على الرغم من سخرية الجهلاء منه، فإنه ظل يغني عشقاً لبلده الأم. وبأغاني وقصص وروايات أخرى، جذبني أبناء بلدي، من صحراء الكوني إلى نخيل عبدالله القويري وحواري الفاخري. برقصات الكاسكا والزكرة وأغاني الرحا والمرسكاوي وألحان فكرون والمزداوي، وبسحر الفونشة والزمزامات العظيمات، وبأكتاف قصص أمهاتنا. اليوم أقف، لا لأنتصر لنفسي ولكن لأنتصر لليبيا، لبلد الطيوب”.
*اندبندنت