دام اجتماع قسم الشرطة المسؤول عن الأمن في منطقة ساحة الشهداء أكثر من ساعتين، والسبب الاستفسارات والأسئلة المتشابكة التي وجهت إلى رئيس القسم، فما أن انتهى من شرح الوضع حتى ضجت القاعة بفوضى الكلام…ويا لها من صعوبة تلك التي حاول رئيس القسم التغلب عليها لضبط العناصر وتنسيق الأسئلة والأجوبة وفلترة المهم من غير المهم، لكن تفهم الحالة من قبل العناصر والاستعداد للقيام بالمهمة أثلج صدر الرئيس رغم العناء الكبير.
– (السكان المحيطون بساحة الشهداء تسيطر عليهم من أكثر من شهر حالة خوف ورعب شديدين، فهم لا ينامون الليل –أحيانا- بطوله من الضجة التي يثيرها العراك اليومي في الساحة، الضجة يشرحها رئيس القسم بأنها: خليط من الصياح واللكمات والشتائم وضرب العصي، وهذا ما يجعل الإبهام والغموض مسيطرا على الحالة، فمهما حاول المرء الإنصات لن يفلح في فهم أي شيء مما يجري في هذه المعمعة الليلية).
هذا ما تضمّنته الشكوى المقدمة لقسم الشرطة من قبل وفد سكان الساحة نقلها الرئيس ثم شرح متابعا:
– (..والسكان -كما تعلمون- لديهم أملاك كثيرة هنا: محلات – أبنية – فنادق- بيوت- ورشات….طبعا يخافون سرقتها وتخريبها ولا ننسى أن لهم أطفالاً يخافون عليهم ونساء يخشون اختطافهم…).
وقفة تأمل قصيرة ونظرة متفحصة مسحت وجوه العناصر، و(المطلوب الآن –يتابع رئيس القسم- رصد وكشف هؤلاء الأشخاص والتحقيق معهم وتقديمهم للعدالة لينالوا العقاب المناسب لأفعالهم…).
يتأمل الرئيس الحشد المتكتل وقوفا أمامه بخطّي نظر متعامدين. يتنحنح ثم يكمل بصوته القوي الأجش حيث يبدو الميكرفون المنتصب أمامه زائدا عن الحاجة: (الآن من يريد الاستفسار أو السؤال أو أي توضيح لاكتمال الصورة فليتقدم إلى المنبر…).
****
تدافع وصخب قوي في القاعة الكبيرة يختلط برائحة العرق النافذة فتطغى على الجو حموضة تميز عادة التجمعات العسكرية والأمنية.. (صمت.. صمت) يصرخ الرئيس مع سبابة مهددة قائلا: برفع الأيدي.. واحد.. واحد..).
يصل صوت من الصف الثاني: (سيدي: ألا يوجد معلومات عن وقت حدوث العركة؟).
يجيب الرئيس: لا.. عندي المعلومات تقول: تحدث المشكلة بعد همود الحركة في الساحة، أي تقريبا بعد الساعة الثانية عشرة ليلا..).
تختلط الأصوات من جديد كما يحدث عادة في المؤتمرات الصحفية، ثم ينجح أحدهم في إبراز صوته من الصفوف الخلفية (سيدي: هل يشك أهل الساحة بأحد من بينهم؟).
الرئيس: (هذا الشيء متروك للتحقيق وهو من يقرر).
ولتفادي هياج جديد، أصبحت إشارة من إصبع الرئيس تحدد المتكلم.
(أنت..) فيقف شرطي من الصف الثالث ويسأل: (سيدي أنا من الحراس المسؤولين عن المنطقة، وحتى الآن لم أر شيئا..، ربما السكان متوهمون ..).
(متوهمون!! مندهشا يقول الرئيس: سكان الحي بأكمله يشتكون ويؤكدون الحالة، وحضرتك تقول: متوهمون..يا ابني شو أنت حمار!).
ضحك في القاعة يحرك قليلا هواء التنفس المتجمد فوق الرؤوس يسكته مسح غاضب تنفّذه عينا الرئيس..
(سيدي: هل يستطيع أهل الحارة تحديد عدد المشكوك بأمرهم؟).
يسأل أحدهم (قلنا ونعيد: إن التحقيق سيباشر فورا وستعرف هكذا أمور من خلاله) أجاب رئيس القسم.
تكاثر الأسئلة الفارغة منها والدسمة أتعبه.. (والآن..انتهى الاجتماع لا تنسوا أن مهلة إنهاء المسألة أسبوع فقط وإلا ستعاقبون جميعا..هيا انصراف..
****
انتشرت عناصر الشرطة فوق الاسطحة، وأمام المحلات، وحول النصب التذكاري قرب النهر. كانوا مدججين بالأسلحة، النواظير الليلية، أجهزة التنصت، أجهزة اللاسلكي..لكنهم تموهوا جيدا وتخفوا.
عقدت العتمة.. انطفأت الحركة..وظلت العيون تترصد، بينما ابتدأت حلقة جديدة من النزاع الدامي في الساحة.
- الصوت الأول: ألم تفهموا حتى الآن أن هذا المكان لنا.
- الصوت الثاني: بل أنتم من عليه الفهم أن هذا المكان مكاننا.
- الصوت الثالث: ليس لكم ولا لهم، إنما لنا نحن..
- الصوت الأول: يا أخي من أين خرجتم لنا فالنزاع بيننا وبين المجرمين فما بالكم أنتم أيها المتطفلون.
- الصوت الثالث: ماذا عندكم من وثائق تثبت أنكم أو هم مالكون لهذه الساحة؟
- الصوت الثاني: هذا مكان عام للدولة ومعروف أنه مكان تنفيذ عمليات الإعدام بالمجرمين، وبالتالي هو لنا.
- الصوت الأول: هل من الضروري أن نعيد كل يوم نفس الكلام، هذا المكان للشهداء فقط، الذين دافعوا عن الوطن وقضايا الناس ووقفوا في وجه الأعداء، وصك الملكية هو دمهم الذي انسفح ذات يوم هنا على الأرض، وغاص عميقا في التراب.
- الصوت الثاني: فلقتونا بهذا الكلام وهذه الخطابات، أنتم لا تعرفون ماذا جرى بعدكم، لذلك تحكمون بمنظار زمنكم، نحن الآن الشهداء، شهداء الجدعنة والشجاعة..
- الصوت الثالث (بغضب): صرعتونا يا..نحن أيضا شهداء البراءة والنقاء وهبونا هذا المكان لنصرخ فيه بحرية عن براءتنا ومظالمنا.
- الصوت الأول (بنبرته الهادئة): يا جماعة اعقلوها!! هل من المنطقي أن يطرد شهداء الوطن من هذا المكان الذي اعتبر مكان تخليدهم، ليحل محلهم المغتصبون والقتلة والحرامية.. الذي يجب أن يكون محلهم الطبيعي مجمعات القمامة..
- الصوت الثاني: قمامة؟! نحن الأقوى هنا لأن هذا المكان قررته لنا حكومة وطنية، أما أنتم لا يحق لكم السكن فيه لأن الاستعمار هو من انتقاه لكم.. ونحن يتعزز موقعنا دائما بأعداد جديدة، وهذا ما يجعلنا حاضرون في ذهن الناس، أما أنتم يا…شهداء (بلهجة سخرية) عبارة عن حادث منسي، أكل الدهر عليه وشرب.
- الصوت الثالث: ما لكم تتجاهلونا وكأننا غير موجودين، نحن طرفا في النزاع مثلنا مثلكم.. ألا يحق لنا أن نعيش موتنا بهدوء في مكان آمن بعد أن دفعنا ثمن جرائم غيرنا من الناس؟
ما أن ينهي الصوت الثالث كلامه حتى يوجه له الصوت الثاني لكمة حقد قوية مع (اخرس يبدو أنكم لا تفهمون إلا بالضرب).
يتدخل الصوت الأول ويحدث الاشتباك بالأيدي- وبالأرجل- وبالعصي..وبعد قليل يسمع صوت ارتطام مدو في الماء يحدث تناثرا ورطوبة مؤقتة على مستوى ضيق بمحيط النهر.
شرطي لآخر: ألم تسمع شيئا؟
الشرطي الآخر: (لا..).
- الأول: (سمعت صوت سقوط قوي في الماء).
يصل الخبر إلى العناصر الموزعة في المكان وبتدافع سريع يصلون المكان بأسلحتهم المهيأة والجاهزة للإطلاق، يفلون المكان تفلية، ويدققون بكل سنتيمتر من الساحة، لكن! لا يصلون إلى شيء أو أثر البتة.
يقول أحدهم: (أنا رأيت أشباحا يتعاركون).
ضحك وسخرية يعم التجمع يؤدي لخجل العنصر وانكفائه للخلف.
سبعة أيام بلياليها واكتمل الأسبوع مسجلا فشلا ذريعا، لم يسبق له مثيل في تاريخ قسم الشرطة الحامي للساحة.
****
استمرت حالة الرعب بظهور الأشباح اليومي مع الشعور بفقدان الأمل في الوصول للأمان، وفي الساعة الأخيرة للمهلة المقررة لإنجاز المهمة، جاء قرار (الهيئة العليا للأمن) واضحا لا لبس فيه : (يعاقب قسم ساحة الشهداء بسبب فشله في المهمة، بحسم عشرين بالمئة من راتب كل عنصر، مع عزل رئيس القسم، هذا أولا..
ثانيا: تنقل القضية لجهاز المباحث للقبض على الجناة والمهملة أسبوع أيضا.
كانت الخطوة الأولى لجهاز المباحث هي: الاستعانة بالعلم لحل القضية الغامضة، لهذا استمر البحث الجيولوجي للمنطقة المحيطة بالنهر ليوميين متتاليين، ولم يخفف من صعوبة المسح إلا الكمامات الموضوعة على أنوف الماسحين الصادة لهجوم القذارة الكاسح المنطلقة من ماء النهر المغلف بطبقات لا يخترقها الرصاص من الأغنيات الحافظة للتفسخ، وكان قرار خبراء قرار المسح بعد انتهاء التنقيب مبروظا بإطار مذهب من ضحكات الانتصار:
(بعد البحث والتقصي تم العثور على عدة دلائل تشير إلى طبيعة الجناة وهذا ما سيسهل إلقاء القبض عليهم وقد تم حفظ الأدلة والآثار في محاليل حافظة في مخبر المباحث بشكل أقرب لطريقة حفظ الدم في بنك الدم، ومن الأدلة بقع دم طازج لأجساد قديمة مهترئة نزفتها حديثا في عراكات متتالية مما أدى لجعلها شرائح متراكمة على بعضها، وجدت أيضا دموع باردة على أشكال عواميد زجاجية شبيهة بمداخن الجنيات ذرفتها محاجر خالية من العيون، والعواميد محاطة بهالات ضبابية من الألم كطوق كوكب زحل، وبقايا عصي متكسرة مصنوعة من العظام المرممة…).
كما أرفقت بالتقرير عدة تفاسير وتحليلات كمحاولة لفهم انبعاث الأرواح الشريرة من موتها الطويل وإقلاق استقرار الأحياء المعتبر من الكبائر منها: (تزاحم أرواح الموتى الكثيرة في المكان الضيق سبب المشكلة).
التفسير الثاني: (خيبة الأمل التي أصابت الأموات في الآخرة أعادت لهم الحنين للدنيا، والضجة سببتها محاولة الخروج من حالة الموت وتحطيم أسراره).
أو وهذا تفسير ثالث: (محاولة التمرد على سادة الآخرة أصحاب الامتيازات لتوزيع الثروة …وإقامة العدل..).
نظر رئيس المباحث في التفسيرات المرتبة على الورقة ، قرأ… وحدث نفسه بصوت مسموع: (هه..ماذا يهمني إن كان هذا هو السبب أو ذاك، المهم بالنسبة لي هو: جريمة تؤدي إلى عقاب، ولآن يجب الإمساك بهذه الأرواح المتمردة اللعينة ومعاقبتها على الإخلال بالأمن.. عقوبة تكون عبرة للأموات ورادعا للأحياء، ولكن كيف يتم ذلك؟!
يتابع حواره مع نفسه: لأول مرة تواجهني مهمة اعتقال أرواح.. كيف؟..كيف؟!
دار السؤال لأيام مهددا الرئيس بالفشل ولم يحفل بجواب والمشكلة العويصة أن المهلة على وشك الانتهاء …يومان وتنتهي..إما المكافأة ..أو….لا…لا…كيف..؟!
وضع الرئيس يديه على صدغيه وضغط بقوة مفكرا عاصرا يحدوه الأمل بأن تسيل الفكرة المنقذة من رأسه كالسائل وهذا الضغط استقدم إلى دماغه خاطرا أضحكه: (لو الأفكار كالبول، تخرج وقت الانضغاط بفعل التجمع لكانت الفكرة الآن تسيل أمامي على الطاولة…).
قفز الرئيس واقفا كالمدوغ ضاربا الطاولة بقوة (هذه هي… هذه هي… وجدتها..).
****
استغرقت الاتصالات مع أجهزة الأمن الصديقة والتي لها باع طويل في القضايا الغامضة والمبهمة نصف نهار.. وعلى جناح السرعة وصلت مجموعة دعم ومساندة مع ما يلزم من البلد الصديق، السرعة وسمت العملية كلها، لقاء.. شرحا للقضية.. التهيؤ لانجاز المرحلة الأخيرة من مسلسل الرعب. (انظر) أمر رئيس المجموعة الصديقة (لا أرى شيئا) رد رئيس المباحث ( هممممم..حسنا ضع يدك هنا) يشير بيده ، يضع الرئيس يده فتصطدم بمادة صلبة، ومندهشا يسأل: (ما هذا… يُلمس ولا يُرى). أجاب قائد المجموعة بأستاذية العالم (هذه – يا صاحبي- زنازين الأرواح الزجاجية المتنقلة، التي ستكون هذه الليلة معبأة بالأرواح المجرمة) استفسر الرئيس بعد صمت أفرزه غدة الجهل أمام العلم (ولكن كيف نستعملها، وكيف سندخل الأرواح إليها ونحن لا نراها) شرح مسؤول المجموعة (هذه الزنازين الخاصة والمصنوعة من أنواع زجاجية نادرة، مجهزة بجهاز مولد لعطر جاذب ينتشر في الجو كانتشار العطور، اسمه عطر الوهم وتأثيره شبيه بالتنويم المغناطيسي وهو مخصص للكائنات تحت الأرضية فقط).
الساعة الثانية عشرة والربع ليلا تم تسجيل آخر خرق للأمن والاستقرار في المنطقة، كانت الأيدي تحاول النهوض وتشكيل القبضات المقاتلة لإثبات حق الملكية للساحة، عندما حل في الجو عطر الوهم المخدر، تراخت القبضات وشعرت الأرواح بتراخ منعش في عضلاتها وبدأت تتحرك حركة السائرين في نومهم ، وكل فئة ظنت أنها حققت ما قاتلت لأجله طوال شهر ونصف من الزمن الأرضي، وكل واحدة كانت ترسف في أغلال وهم الانتصار، فينتظرها المصير الأسود.
****
في غرفة العدل إحدى غرف مبنى المباحث، جرت المحاكمة السرية، كانت الأرواح تتجمع على نفسها كأجساد مقرورة ، وتقوم بحركات شبيهة بحركة فتيات انتزعت ثيابهن أمام أعين وقحة، ظهرت الزنازين الآن للأعين وكانت كألفيات العرق السوري، سأل رئيس المباحث الخبير مدير مجموعة الدعم الصديقة: كيف ظهرت هذه الصناديق
الزجاجية وكانت مختفية من قبل هي والأرواح التي في داخلها نحن – أجاب الخبير مع مسحة فخر ممزوجة بالأنفة- نوجه عليها الآن نوع خاص من أشعة X الكاشفة للزجاجات والمجسدة للأرواح حتى تستطيعون رؤيتها وتوجيه الكلام لها أثناء المحاكمة).
كانت تصل إلى الأرواح إشارات وأصوات غامضة أثناء المحاكمة كشيفرة صعبة الفهم أو الفك، ذكّرتها الأصوات بلغة ليست غريبة عنها ولكنها في منطقة من الذاكرة عصية على قوى الاسترجاع، كما أنها كانت تتعجب من الغضب البادي على وجوه القضاة بزيهم العسكري الجالسين وراء الطاولة العالية ومن الصراخ الموجه لها مما يزيد من هيئتها السديمية المتحيرة.
و(الآن) قال الرئيس بعد استماعهم إلى قرار الاتهام وإظهار الأدلة الدامغة وشربكة حيثياتها (النطق بالحكم.. باسم الله.. باسم العدل.. باسم الشعب قررت المحكمة الخاصة إنزال عقوبة الإعدام شنقا حتى الموت بالمجرمين الماثلين أمامنا.. المتنكرين بهيئة أرواح عقوبة لهم ورادعا لغيرهم من الأحياء والأموات لتجرئهم على المساس بالأمن وترويع السكان الآمنين، وتعاملهم من جهات خارجية أمدتهم بأسلحة فتاكة،
وتُترك أجسادهم معلقة على المشانق حتى الصباح ليراها الناس).
يقاطع أحدهم عند هذه النقطة من تلاوة الحكم ويهمس بإذن الرئيس: (سيدي.. سيدي.. لكن هؤلاء ليس لهم أجساد!).
مشكلة غير متوقعة نبقت في وجه الرئيس- القاضي، تفكّر قليلا..وتابع: وبعد القضاء على هذه الأرواح، يتم استعارة بضعة عشرات من المعتقلين في السجن المركزي الكبير ليحل محلهم في التنفيذ العلني للحكم..
ملحوظة: (يمنع تسريب أية معلومات لأي جهة إعلامية داخلية كانت أم خارجية مسموعة أو مقروءة أو مرئية حفاظا على سمعة الوطن).
*تلفزيون سوريا