عام 1999 جسّدت الفنّانة السورية أمل عرفة دور البطولة في المسلسل الكوميدي “دنيا أسعد سعيد” الذي دخل حينها
كل منزل سوري، وباتت عرفة من ممثّلات الصف الأول السوريات، حتى أصبحت شخصية دنيا “كاراكتيراً” يُستخدم في الإعلانات والشوارع والمزاح بين السوريين.
المسلسل كان يدور حول فتاة تُدعى “دنيا أسعد سعيد”، أتت إلى العاصمة دمشق من قرية بين القصرين، لتعمل خادمة في البيوت بهدف جمع الأموال لشراء أرض أبيها، بعدما حُرمت من الميراث. وكانت تقول لكل عائلة تعمل عندها “لا بشوف ولا بسمع ولا بحكي”، ولكن بطيبة قلبها وكرهها الشر كانت تفقد عملها بعد فترة في كل منزل، لأنّها لم تكن قادرة على السكوت عن المشكلات التي كانت تراها.
بعد 20 عاماً على عرض دنيا، باتت عرفة منبوذة من الجمهور السوري الموالي والمعارض على حدٍّ سواء، بسبب دورٍ كوميدي يمتد لدقائق أثار الغضب ضدها، ونسف رحلة 25 عاماً.
8 سنوات على اندلاع الثورة في سوريا، حاولت خلالها عرفة تجنيب نفسها الوقوف مع أي طرف لكن محاولاتها باءت بالفشل، إذ لاقت نقداً وهجوماً عنيفاً، بعدما قدمت لوحة من مسلسل كوميدي عرض في رمضان الماضي يحمل اسم “كونتاك”، يظهر في إحدى حلقاته قيام عناصر منظمة “الدفاع المدني السوري” بتصوير مشاهد مفبركة للقصف في سوريا.
وفي المشهد يطلب أحد عناصر الدفاع المدني من عرفة الصراخ على أولادها الذين قضوا جراء القصف، على رغم أنّهم كانوا أحياء، ثم يقوم بسكب الدم عليهم كي تكتمل عناصر التمثيلية.
لم يخرج هذا العمل إطلاقاً عن سياق “الرواية الروسية” التي تهاجم “الخوذ البيض” ليلاً نهاراً منذ سنوات، في محاولةٍ لإظهارهم “يفبركون مشاهد الهجمات الكيماوية والقصف العشوائي”.
بعد هذه اللوحة “الكوميدية”، لاقت عرفة انتقادات لاذعة من شريحة واسعة من السوريين، بسبب ما وُصف بـ”سخريتها من حرمة موت الضحايا”، إضافةً إلى نقد مماثل من معجبيها، الذين رأوا أنّها انحدرت بطريقة غريبة بعد مسيرة فنّية مشرّفة، فخسرت الجمهور المعارض والموالي معاً.
رحلة الانتقام
بعد النقد الشديد الذي تعرّضت له عرفة، نشرت توضيحاً في “إنستغرام” اعتذرت فيه عن المشهد قائلةً: “أعتذر لأي سوري فتحنا له جرحاً أو ألماً بحلقة مسلسل كونتاك”. وأضافت: “وصلتني رسائلكم وقرأتها، ولن أنشرها ليس لما تحتويه من شتائم، بل لأنها تحمل أوجاعاً وآلاماً لم أخلق للحظة كي أستهين بها”، متابعةً: “سبق أن قلت إن كان دمي سيوقف النزيف على أرض بلادي فأهلاً بالموت، والآن وبعد سنوات أعيد ما قلت ومن دمشق وليس من خارجها، أكرر اعتذاري وأعيد: قدم أصغر طفل سوري بسياسات الكون، ومن دمشق وليس خارجها”.
يمثّل ما حصل مع عرفة، جزءاً من السياسة الإقصائية التي يواجهها الفنّان السوري من أطراف النزاع عموماً والنظام السوري خصوصاً.
تبرّر عرفة المشهد بأنّها لم تكن تعلم أن الحلقة ستخرج بشكلها النهائي الذي عرضت به بعد مرحلة المونتاج، قائلةً في هذه الصدد: “لو أننا كممثلين عرفنا كيف سيتم مونتاج هذه اللوحة، وربط الأحداث ببعضها على هذا الشكل، لكنا طالبنا بعدم عرضها من الأساس، أعتقد أنه كان من حق الألم السوري أن تحذف هذه اللوحة جملةً وتفصيلاً، حفاظاً على مشاعر السوريين أينما كانوا وكيفما كانت مواقفهم”.
على رغم أن تبرير عرفة لم يعفها من نقد الجمهور السوري، لا سيما المعارض، إلّا أنّه فتح عليها النار من جانب النظام السوري وإعلامه، الذي اعتبر اعتذارها بمثابة اعتراف بصدقية الدفاع المدني، فحاول الانتقام منها على طريقته الخاصة.
كان من المقرّر أن تجري عرفة مقابلة مع إذاعة “المدينة إف إم” الموالية للنظام السوري، عبر برنامج “المختار” ذائع الصيت، الذي يقدّمه الإعلامي السوري باسل محرز، لكن مدير الإذاعة ألغى اللقاء بعد اعتذار عرفة.
وذكرت الصفحة الرسمية لإذاعة “المدينة” أن إلغاء المقابلة مع عرفة جاء بعد ما نشرته من تبرير واعتذار على لوحة في مسلسل يفترض أنها قدمت جزءاً من حقيقة فبركة الأحداث التي تحصل في سوريا، من ميليشيات مسلحة ودول داعمة لها، بخاصة ما يسمى منظمة “الخوذ البيض” التي لم يعد يخفى على أحد قيامها والجهات التي تدعمها بتشويه الحقائق”.
وأشار بيان الإذاعة إلى أنّه ألغى اللقاء “التزاماً بسياسة الدولة السورية ومواقفها واحتراماً لضحايا هذه الميليشيات وداعميها”.
كما شنَّ موالون للنظام حملة تخوين بحق عرفة، ودعوا إلى اعتقالها أو “إرسالها إلى إدلب” بحسب منشورات لهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
لم تدم هذه الحملة حتّى خرجت عرفة مُعلنةً اعتزالها الفن بشكل نهائي، قائلةً في حديثٍ صحافي: “قررتُ أن أعتزل الفنّ وسأتركه لأهله، وهذا آخر كلام عندي”.
توضح عرفة أنّها “تشعر بالقرف النهائي”، وأنّه ربما تعيلها أي مهنة أخرى على الحدود الدنيا من الحياة الكريمة، بطريقة أفضل مما يحصل معها في هذه المهنة.
ابتعدت أمل عرفة من مواقع التواصل الاجتماعي واللقاءات الصحافية لأسابيع، لتخرج بعدها مُعلنةً التراجع عن قرار الاعتزال وقالت: “إن إعلان اعتزالها لم يكن سوى تصريح انفعالي بعد الأزمة التي تعرضت لها”، وأوضحت أنها تحضّر لمشروع فني كبير، لكنها تنتظر الفرصة المناسبة للبدء فيه، وذلك يتعلق بشكل وثيق ومباشر بمزاجها الخاص، على أن تبقى جميع الاحتمالات مفتوحة، فإما أن تطلقه وتظهر فيه خلال رمضان المقبل، أو تؤجله لأجل غير مسمى.
ويمثّل ما حصل مع عرفة، جزءاً من السياسة الإقصائية التي يواجهها الفنّان السوري من أطراف النزاع عموماً والنظام السوري خصوصاً.
من هديّته لـ”جيش النظام” إلى منع الظهور
لم تكن عرفة وحدها التي تعرّضت لهجوم من موالي النظام، ومنع ظهورها عبر وسائل الإعلام، فقد مُنع النجم السوري عابد فهد من الظهور أيضاً.
لمع نجم فهد عام 2000 عندما جسّد دور جسّاس الذي طعن ابن عمّه، ثم في المسلسل السوري “الزير سالم”، وأشعل حينها ما عُرف بـ”حرب البثوث”. وهو زوج الإعلامية السورية زينة اليازجي.
في حزيران/ يونيو الماضي، سرّبت وسائل إعلام محلية خبراً مفاده منع فهد من الظهور على وسائل الإعلام، مع مجموعة فنّانين آخرين مثل عباس النوري وباسل خياط.
وفقاً لمصادر موثوقة لـ”درج” في “المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون” السورية، فإن قرار المنع كان شفهياً وتم إبلاغ وسائل الإعلام فيه بشكلٍ شفهي.
كان فهد قد فاز بجائزة أفضل ممثل عربي لعام 2019 التي تمنحها “الموريكس دور”، في بيروت، وأهدى فهد الجائزة إلى “قوات النظام السوري” والجيش اللبناني قائلاً: “إن الجيش السوري ضحّى من أجل حماية السوريين”، وذلك وفقاً لمقطع فيديو نشرته زوجته الإعلامية زينة اليازجي، غير أن هذا التصريح أثار هجوماً ضدّه بسبب الانتهاكات والمجازر التي يقوم بها جيش النظام السوري ضد المدنيين.
لكن هذا التصريح لم يكن شفيعاً لـ”فهد” عندما جسّد دور البطولة في المسلسل السوري المثير للجدل “دقيقة صمت”، الذي عُرض في شهر رمضان الماضي للكاتب السوري المعارض سامر رضوان.
وأوقفت إذاعة “صوت الشباب” السورية الرسمية، بث مقابلة كانت بصدد إجرائها مع فهد ضمن برنامج “مع الكبار”، وأزالت الإعلان عن الاستضافة قبل يوم واحد من بث البرنامج، غير أن فهد نفى في حديثٍ لـ”موقع الإمارات اليوم” علمه بهذا القرار قائلاً: “لم أتلقَّ قراراً بالمنع بشكلٍ رسمي”.
“دقيقة صمت” يصوّر فساداً في الأجهزة الامنية السورية حيث يتم تهريب اثنين محكومين بالإعدام من السجن، لإجبار مدير السجن على إعدام اثنين بدلاً منهما يحملان الاسم ذاته، لأنّهما كانا يملكان شهادات فساد ضد شخصيات معروفة في سوريا.
ورأى الكاتب السوري سامر رضوان، وهو سيناريست العمل خلال مقابلة مع قناة “الجديد” اللبنانية، أن “المسلسل يختزل بأنه ملك للسوريين في الشارع الموالي والمعارض، وأنّه صرخة احتجاج في وجه السلطة التي لا تستحق هذا الشارع”.
وأضاف رضوان: “معركتي لم تكن في يوم من الأيام مع أي سوري إلا مع هذه السلطة، وأتمنى أن يُقرأ هذ العمل انطلاقاً من الصراع الشخصي مع سلطة مارست كل أنواع التنكيل مع السوريين”.
لكن تصريحات رضوان أغضبت وزارة الإعلام السورية التي أصدرت بياناً في 25 أيار/ مايو الماضي قالت فيه: “إن الشركة المنتجة لم تحصل على موافقة ما بعد المشاهدة، لأنها لم تقدم العمل إلى لجان المشاهدة أصولاً ومنح العمل بالتالي موافقة العرض والتصدير”.
وأضاف البيان أن الشركة قامت بتهريب المادة المنتجة من الأراضي السورية وعرضتها على قنوات عربية، الأمر الذي اعتبرته “سرقة واحتيالاً موصوفين وخرقاً سافراً للأنظمة النافذة والآليات المتبعة في عملية الإنتاج التسويق الدرامي”.
بعد هذه التصريحات المتبادلة، لجأ أبطال “دقيقة صمت” الذين يعيشون داخل سوريا، إلى محاولة تبرئة أنفسهم من تصريحات رضوان.
ونشرت جريدة “الأخبار” اللبنانية مقالاً مشتركاً كتبه كل من عابد فهد وفادي صبيح وخالد القيش إضافةً إلى عضو شركة “إيبلا” المنتجة للمسلسل نور هلال أرناؤوط، تحت عنوان “عائلة دقيقة صمت ترد في الأخبار: لنبتعد عن المياه الآسنة”.
واعتبروا أن تصريحات رضوان طوقت نجاح العمل، وكادت تقضي على على كل “ملامح الفرح” التي غطت وجوه العاملين فيه.
كما عبّر أبطال العمل عن صدمتهم بما أدلى به كاتب المسلسل من تصريحات تتنافى مع “الثوابت الوطنية”، وبصورة تقحم العمل الفني في خضم عراكات شوشت على النجاح الذي حققه العمل.
بشار اسماعيل وحرب النقابة
يُصنّف الممثّل السوري بشّار اسماعيل (66 سنة)، على أنّه أكثر الممثّلين موالاةً للنظام السوري، فمنذ اليوم الأول لاندلاع الاحتجاجات في البلاد، اتجه اسماعيل لتبرير جرائم النظام ومهاجم الثورة، إلّا أن تصريحاً واحداً فتح النار عليه من نقابة الفنّانين.
في مقابلةً متلفزة، أوضح اسماعيل أن ترؤّسه نقابة الفنّانين التابعة للنظام “لا يشرّفه”، وقبل هذا التصريح كان عبّر عن استغرابه إزاء تولّي الممثّل السوري زهير رمضان مسؤولية النقابة وكيفيّة عودته إلى صفوف حزب “البعث” عقب فصله منه عام 2007.
اسماعيل كان هدّد عبر صفحته في “فيسبوك” قبل أشهر، باللجوء إلى كندا بسبب الأوضاع المعيشية والفساد المنتشر في البلاد، وبسبب ما يتعرّض له من تهميش على الساحة الدرامية السورية، وذلك على غرار الحرب الكلامية بينه وبين زهير رمضان.
الفصل من النقابة… سلاح فعّال
في تشرين الأول/ أكتوبر 2014 تسلّم رمضان منصبه الجديد نقيباً للفنّانين السوريين، ولمع نجم رمضان بعدما جسّد دور “المختار عبد السلام البيسة” في المسلسل الكوميدي الشهير “ضيعة ضايعة”.
بعد استلامه بأيام، فصل رمضان، الذي كان نائباً في مجلس الشعب السوري، ممثّلين، سواء كانوا معارضين، أو مقيمين خارج سوريا.
فور استلامه النقابة، أصدر رمضان قراراً بفصل مجموعة ممثّلين سوريين بعضهم بسبب مواقفهم المناهضة للنظام السوري، وآخرون إثر مغادرتهم سوريا بشكل نهائي. ومن بين المفصولين، المخرج حاتم علي، الممثّلون باسل خياط، جمال سليمان، تيم حسن، مكسيم خليل، قيس الشيخ نجيب، سامر المصري، جمانة مراد، وآخرون. كما شملت قرارات رمضان إحالة هؤلاء إلى المجلس التأديبي، ما دفع البعض منهم إلى الاعتذار عن تصوير أعمال كانوا بصدد العمل عليها في سوريا.
وأرجع رمضان قراره، إلى اتهام الممثلين السوريين بالمساهمة في “سفك دماء السوريين”، عبر تأييد المعارضة السورية أو الدعوة إلى التدخل العسكري في سوريا. ومنذ ذلك القرار وحتّى الآن بات “الشطب من النقابة” سلاحاً بيد رمضان يسلّطه على رقاب الفنّانين السوريين..
المصدر : درج