فهد الحسن، فنان وناقد تشكيلي سوري مقيم في الدوحة.
أوراق 19-20
تشكيل
إن الحديث عن الذات، هو من الصعب بمكان، لأنه يُدخل المرء في حيرة شديدة، تبدأ من محاولة تلّمس خيوط الموضوعية والتمسك بها، وتنتهي بنكران الذات والرغبة في التجرد من الأثرة والأنانية. ولعل في استعراض البدايات الأولى لتفتح الحواس، يقودنا إلى بلورة الرؤى والمؤثرات التي رافقت ذلك، واستخلاص النتائج التي قد تفيد في تكوين نظرة محددة لمجمل التجربة، وتأثيراتها.
ما أذكره أنني في سبعينيات القرن الماضي كنت طفلاً صغيراً يعيش في كنف أسرة عادية … في مدينة منسية تقع شمال شرق سورية اسمها (الرقة).. وعلى خاصرتها الجنوبية، يمر نهر الفرات الذي منحها ديمومة الحياة حتى يومنا هذا، على الرغم من كل ما مر بها من إهمال ومحن ونوائب جمّة.
هناك تفتح وعيي مبكراً، وكان ذلك مرهوناً بحواسٍ استنفرت كل طاقاتها، لتستكشف ما حولها بشغف نادر وقدرة هائلة على تتبع أثر المعرفة، وما تنتجه من عناصر تقود إلى إكساب العقل غذائه الأثير، عبر البحث والتقصي. كنت متفوقاً في المدرسة، وقد ساهم ذلك بتميّزي بين أقراني ولداتي وزملائي، ومع إعمال الحواس في المشهد الحياتي المحيط، قادني شغفي إلى عالم (الرسم) الذي استقبلته حواسي بمزيد من الدهشة والإبهار، مبدداً ما يحيطه من رهبة وغموض وانكماش.
ومع المحاولات الأولى، تلاشت وتكسرت كل الحواجز، لأدخل محراباً خاصاً، ببوصلة فطنةٍ تغوص في التفاصيل بعمق الباحث عن حقيقة ما. وكان ذلك بوابة رحيبة للتجريب الواعي والممنهج، الذي عرّفني على قيمة الأداة وخصائصها وسماتها واختلافها، عن الأدوات الأخرى.
رحلة البحث هذه، قادتني إلى سبر أغوار قدرة تلك الأداة على تجسيد ما أريده. وكان ذلك مفتاحاً لدخول عالم فيه من الثراء والدهشة ما لم أكن أتخيله .. ثم تعددت المحاولات لكشف كنه الأدوات والمواد التي استخدمتها في التعبير عن رؤيتي للعالم المحيط. وكان كل ذلك تسلسلاً منطقياً، يعكس الصبر والأناة، في بلورة تجربة تحتاج إلى وقت طويل، وإلى بحث مضنٍ لكي تصل الى مرادها.
وهكذا عرفت قيم العناصر وقدرتها على إظهار ملامح الأشياء، وخصوصية كل منها على حده. بدأت بالقلم الرصاص ثم بأقلام الفلوماستر والشمع والفحم .. ثم امتلكت ناصية الجرأة في استخدام الألوان المائية، فأقلام الحبر الجاف والحبر، وصولاً إلى الألوان الزيتية، ذات الخصوصية التي تتفرد بها عن باقي العناصر الأخرى.
والذي أذكره أنني أقمت أول معرض لي وأنا في سن الرابعة عشر من عمري. كان ذلك باكورة عطائي التشكيلي، والذي استطعت عبر التمكن من أدواته تدريجياً، من أن أوظفه لاحقاً لخدمة ما اكتنزته من أفكار ورؤى حياتية، كانت تتبلور مع الأيام، وكان يحكمها وعيٌ مبكرٌ لحقائق الوجود، وحوادثه المتنوعة.
وقد لازم ذلك قناعتي الراسخة، بتوظيف القدرات الفنية، لخدمة أفكار تتصل وتتوكأ على إرث ثقافي متنوع، استطعت تحصيله بالمواظبة على القراءة، في شتى صنوف المعرفة، مما ساعدني على تجسيد قيم الحرية والعدالة، ومفاهيم البحث عن عالم نقي، يسوده حق الإنسان في حياة كريمة تليق بإنسانيّته وآدميته.
واستطعت بهذا المعنى، أن أنتج في سن مبكرة، لوحات كثيرة ضمن هذا التوجه، الذي – بطبيعة الحال – لازم أعمالي مستنداً إلى طابع فكري، يوظف البعد الفني، لترجمة الأفكار وبلورتها، لكي تكوّن إجابة عن كثير من الأسئلة المتعلقة بهموم الناس والبشرية جمعاء .
وأستطيع القول أنّ تجربتي التشكيلية، سعت إلى خلق توازن محكم، بين الأداة والفكرة. بمعنى من يبحث عن التمكن في الأدوات الفنية: (القدرة على الرسم، وإظهار الظل والنور، وملمس الأشياء وخصوصيتها، والتشريح، والمنظور، والبعد الثالث، وبناء اللوحة دون خلل … إلخ) مترافقاً مع وضوح الفكرة، والابتعاد عن الفانتازيا والغموض والمباشرة والسطحية.
وفي اعتقادي، أن المشاهد والمتابع لأعمالي، عبر الكثير من المعارض الفنية الفردية والمشاركات الجماعية، قد تلّقى نتاجي الفني، بمزيد من القبول والدهشة والإعجاب، بتجربة واعدة، تميل إلى صقل ذاتها عبر الإبحار في استثمار طاقتها الفنية، لتجسيد أفكار حداثية، وغير مكرورة، ومترافقة مع وعي الذات والمحيط بآن معاً.
هذه خلاصة ما استطعت ترجمته في أعمال فنية، قوامها التمكن من الأداة، والاجتهاد الدؤوب نحو ترك أثر فني يدوم تأثيره طويلاً، بعيداً عن الضحالة والسطحية والابتذال.
ولعل من يشاهد أعمالي اليوم، يتملكه اليقين، بأنني لم أغالِ في سبر جوانب تلك التجربة، وما أنتجته من أعمال تشكيلية، تحتفي بالحياة، وبكل ما فيها من انتصارات، وهزائم، وانكسارات، ومظالم.