في الآونة الأخيرة سألت نفسي كثيراً عن معنى السعادة، وقد استوقفني قول للفيلسوف الألماني نيتشة عن حب الحياة، حيث قال: نحن نحب الحياة، ليس لأننا اعتدنا الحياة، بل لأننا اعتدنا الحب.
وفكرت بعيداً عن معضلة الحب وسبات الاعتياد، بأن السعادة قد يسلبها منك شخص واحد، لكن من المستحيل أن يمنحها لك شخص بعينه، بمعنى أن الحب وحده لا يستطيع تحقيق السعادة.
أنا اليوم أقترب من عامي الثاني والخمسين، حيث فوضى الهورمونات تعبث برأسي وجسدي، لكنني أحاول التقاط السعادة في أدق التفاصيل. وتكفي أحياناً فراشة ملونة تفتح جناحيها على كتفي كي أشعر بالسعادة، أو عصفور مسافر يستريح على شرفتي وتختلط موسيقاه بموسيقى الراديو الرقمي بين يدي.
وقد تمنحني السعادة وردة صغيرة تفتحت في غفلة من نومي، أو قطعة شوكولا تذوب ببطء على لساني ولا تترك مذاق الندم المر، أو لعلها غفوة في حضن القمح وأنا ممتلئة بأحلام الطفولة، أو السير فوق بساط أزرق يتموج تحت قدمي المتعبتين، التي تكفيها ملامسة الرمال الدافئة لتشفى.
هذا ليس من باب المجاز والتصوير الشعري، بل هي تأملات امرأة تستعير عيني فنان كي تطل على الحياة من شرفتها الخمسينية، فوحده الفنان قادر على اكتشاف جمالية الاعتياد من زاوية أخرى. ولعل عمر الخمسين يمنحنا ترف هذا التأمل، فالأولاد قد كبروا وحبل السرة قطعته الأيام على مهل، وأصبح أسهل علينا الآن مغادرة دور الأم والأب المثقلين بالتربية والتوجيه، والدخول بلا وخز الضمير في مرحلة الصداقة، بالإضافة لهذا يشعرني عمر الخمسين بأنني بين ضفتين، ليس لديّ القدرة على السباحة عكس التيار، ولا لي خفة التحليق فوق الحواجز كما كنت في العشرين، لكن الزعانف التي نبتت على جلدي مع الأيام، تستطيع أخذي إلى أعماقي، حيث آن الأوان للتعزيل الداخلي، وإخراج المشاريع المركونة في زوايا الذاكرة. ولا مانع في رشوة السعادة بالعطاء، ولو بابتسامة عابرة لغريب، ولا مانع من الاستعانة بصديق، فالصديق هو شريك العمر الأمثل، الذي قد لا تبدأ العلاقة معه، كالحب، من النظرة الأولى، لكنها أخف وطأة، وأكثر حرية وديمومة.
يقال إن الإنسان يحتاج كثيراً إلى العناق كي يشعر بالسعادة، لكن الأهم أن يعانق نفسه مرات عديدة في اليوم، ولا يتردد في إرسال رسائل حب إلى ذاته، ولا ضرر في معاتبة خفيفة، فالرسائل التي نرسلها بلا ساعي بريد، يكون من السهل محوها.
الخمسين بين الرجل والمرأة
يقال إن الرجل يخاف من فقدان السلطة، أما المرأة فتخاف من فقدان الحب، فالحب هو العمود الفقري الذي يحمي روحها من التداعي. لكن مراكمة قصص الحب، تجعل روحها في النهاية مليئة بالثقوب، فكل حب يترك ثقباً أشبه بالسرة. والسرة قد تكون كناية للحب والفراق الأول، لكنها أيضاً بوابة العبور إلى الحياة عبر الألم.
ومن هنا ربما سر ارتباط الألم بهوية المرأة، ولهذا أيضاً تكون عتبة الألم لدى المرأة أعلى بكثير من الرجل، فجسدها مهيأ للأمومة، حتى لو لم تختبرها فعلياً. وليس هذا هو الاختلاف الفيزيولوجي الوحيد بين الجنسين، النساء عادة ينضجن أسرع من الرجال، وأجسادهن تدخل الشيخوخة أسرع من الرجال، لكن الدراسات الحديثة أثبتت أن عقل المرأة يدخل الشيخوخة ببطء أكثر من الرجل، ربما لأن المرأة، بحكم الهرمونات، تخرج مبكراً من دوائر الرغبة، وتدرك أن متع الحياة تتجاوز الجسد وغرائزه.
ففي الوقت الذي نعثر فيه على رجال تجاوزوا عمر الستين، وما زالوا مشغولين بالقدرات الجنسية ومآلاتها، يكون عقل المرأة الستينية في الغالب بعيداً عن تلك المشاغل. وفي الوقت الذي يسعى فيه بعض الكهول إلى مصاحبة نساء يصغرنهم سناً، لإثبات فحولتهم، تسعى المرأة في هذه المرحلة العمرية إلى مصاحبة ذاتها، والبحث عميقاً عن معنى الأنوثة والأمومة وربما الحياة.
بعضهن ينجحن في بداية جديدة، بل في تحقيق أحلام أجلتها الأمومة ومشاغل الحياة، وبعضهن يفشلن وتهوي أرواحهن في بئر عميق، إذا توقف دورهن كأمهات، أو لم يعد الصبا والجمال طوع أيديهن. وعلى الرغم من أن الكثير من النساء ينجحن في التصالح مع العمر بعد الخمسين، والتمتع بكونهن غير مرئيات للجنس الخشن، ما يجنبهن التحرش، ويوفر عليهن الطاقة النفسية والمادية، للبقاء في مضمار سباق الجمال. تعاني أخريات من تقدم بالعمر، ويعزز من معاناتهن تعامل المجتمع الذكوري معهن، وكأنهن منتج انتهت صلاحيته. ففي حين ينظر للشيب على أنه وقار للرجل، يعتبر الشيب إشارة لشيخوخة للمرأة، وفي حين أن الكرش يعتبر وجاهة للرجل، هو وزن زائد للمرأة. وهذا يدفع الكثير من النساء إلى البحث عن حلول سريعة وسطحية لإخفاء الكبر، كما يحدث اليوم في عمليات الشد والنفخ، التي تجعل النساء نسخا مكررة، والجمال سلعة تباع وتشترى لمن يستطيع الدفع مقدماً، لكن على الرغم من أن الطب اليوم يعد بالشباب لأطول فترة ممكنة، لكن علينا ان نعي أن الكبر ليس مرضاً يتوجب علاجه، بل هو تطور طبيعي، ويحق لنا أن نشيخ، وأن تظهر تعرجات للفرح والدهشة على وجوهنا.
وفي النهاية لا وجود لخطوط طول وعرض تقيس الجمال، كما أن الأنوثة لا تختصر بالجسد، بل هي كيان متكامل، يبدأ بالعقل ويمر عبر الروح وصولاً إلى الجسد.
وبعيداً عن الحلول الترقيعية، تمتلك المرأة آلية دفاع ذاتية لمقاومة العمر، تتمثل في قدرتها على الكلام، والتعبير بسهولة أكثر من الرجل عن مشاعرها، وهذا يخفف الضغط ويطيل العمر. وإن لم تسعفها الكلمة فقد تسعفها الدمعة، أو نظرة عميقة إلى المرآة، رفيقة العمر والسنوات.
ويحضرني هنا فيلم «عيون مفتوحة على اتساعها» للمخرج المميز ستانلي كوبريك، حيث يظهر في أفيش الفيلم توم كروز، وهو يقبل نيكول كدمان، وفي حين تنظر الممثلة أثناء القبلة عميقاً في المرآة، يبدو كروز بعينيه المغمضتين أشبه بالغائب عن اللقطة. وكأن صورة إعلان الفيلم تشير إلى أن المرأة تبحث عما هو أبعد من الجسد في العملية الجنسية، بينما الرجل يبقى أسيراً لجسده، وهذا يحول الجنس إلى مجرد فعل ميكانيكي، في حين أن العلاقة الجنسية تكون ناجحة بالنسبة للمرأة، عندما تغوص بعيداً في أعماقها، وتحرض لديها الأسئلة والخيال. وربما من هنا، يبدأ سوء الفهم بين الجنسين، ولا ينتهي.
طعم الخمسين
الخمسين له طعم حلو وحامض، وكل الأشياء تبدو فيه نسبية، لذلك يتوجب عليك عيشه بطريقة مختلفة، والتخلي عن الكثير مما يثقل حمله، ابتداءً بالهموم والمشاكل، وانتهاءً بالثياب المعلقة في الخزانة، بانتظار أن يعود قوامك كما كان، فعليك بعد الآن أن تكون رحيماً مع جسدك، ولا تدعه عرضة لاختبار الحميات وصيحات التنحيف، بل اعتنِ به كي يعتني بك عندما تحين ساعة الصفر.
ولا تنظر إلى عمر الخمسين على أنه بداية الخريف، بل هو فصل آخر من الفصول التي تمر على بستان العمر، تزهر فيه القلوب وقد تذبل، وربما تجف العروق لكن العقل يرتوي دوماً بروافد التجربة، وكل ما يمنح الروح اتساعاً لتمتلئ بالمعنى. ولا تنسَ أن تهز رأسك طرباً وأنت تستمع إلى الموسيقى، أو تقف باحترام أمام شجرة لها من العمر أضعاف ما لك، ودع رائحة العشب الرطب تقبل روحك، ولا تقبل بعد منتصف العمر بأنصاف الحلول، بل امض إلى المدى.
وابدأ برياضة جسدية تنشط دورتك الدموية وتحرض هرمون السعادة، وحرض المعرفة برياضة فكرية، ولا تنسَ أن خير جليس في الزمان كتاب يؤنس وحدتك. لكن لا تقرأ كالأطفال لتتسلى، ولا كالمجتهدين لتتعلم، بل اقرأ لتعيش.
ولا تنسَ كل صباح أن تتبع نور الشمس وتراقص ظلك، فأنت ما زلت قادراً على الرقص في حلبة الحياة. وكل ما في الأمر أنك أصبحت الآن في الصفوف الخلفية، لا أحد يراك، لكنك تراقب الحياة من حولك وقد اتسعت الرؤية. وتذكر أنك عندما تتوقف عن الرقص، ستغدو كهلاً.
على سبيل النصيحة
يسود اعتقاد خاطئ بأن الشيخوخة تصيب الآخرين فقط، لكن يوماً ما سنقف جميعاً أمام المرآة، وستصارحنا المرآة بعمرنا دون مواربة، ولن تنفع حينها المساحيق في طمر حفر الزمن، بل ستزيد في عمقها. ولن تشهد المرآة وحدها على عمرك، بل الصورة التي تلتقط في غفلة منك، فنظرة الآخر لك ولو بعين ثالثة، لا يمكن خداعها من الزاوية المناسبة للابتسامة، كما تفعل عادة مع صورة السيلفي. ربما سيتطلب الأمر الكثير من الشجاعة، للتسليم بأن شعلة الشباب المتقدة تنطفئ سريعاً، ولا يبقى في النهاية سوى الهالات السوداء لسهر الليالي، واستدارة البطن حول الملذات، وتعرج الجبين حول الفرح. وربما لن يتوفر للجميع اختبار إحساس أن تكون فقيراً، سميناً، أو أسود البشرة، أو حتى إحساس أن تكون امرأة.
لكنهم جميعاً إن كتب لهم العمر، سيعرفون معنى أن يأخذهم العمر إلى الضفة الأخرى، حيث سيجدون الشيخوخة ومشاكلها في انتظارهم.
شخصياً، لا أدري إن كنت سأختبر طعم الشيخوخة يوماً، لكنني أستطيع الآن أن أذوق طعم الخمسين، وأذكر نفسي ومن هم بعمري بأساسيات الراحة النفسية، حتى لا أبالغ وأسميها سعادة:
1.قد يكون عمر الخمسين تمريناً متأخراً على الحياة، لكنه قد يصبح تمريناً مبكراً على الموت، عندما يصاب العقل بالشيخوخة، وبما أن الجسد يستحيل إيقاف سيرورة فنائه، تبدو المعادلة الأسهل في المحافظة على شباب العقل. فانصت بعمق إلى صوت العقل الذي يمر خفيفاً داخل تلافيف رأسك. ولا تتجاهله، فقد يأتيك ثقيلاً بعد منتصف الليل ويعاقبك بالأرق.
2. لا ترم الأسلحة المضادة للشيخوخة، لكن لا تخض حروباً بعد اليوم، فالزمن بعد الخمسين هو زمن الثورات السلمية، وعليك أن تعقد سلامك مع المرآة والميزان، ومع الآخرين من حولك.
3. قاوم العمر بالحركة ولو ببطء، فليس بالسرعة وحدها يصل الإنسان.
ودع الزمن يعدو أمامك واتبعه كسلحفاة، وتذكر أن السلحفاة تعيش طويلا، رغم كل ما تحمله فوق ظهرها من متاعب ومتاع.
4. استمتع بدفء شمس العمر تعبرك عند الأصيل، فالشمس قبل الغروب بقليل، هي الأجمل.
5. ابتسم كثيراً للحياة، ولا تخف أن يحفر الفرح غمازته في خدك، فالابتسامة هي اختمار لروح الشباب أو ما تبقى منه.
تعقيب بسيط
هذا المقال ليس من باب إسداء النصائح، فأنا لست مؤهلة لهذا الفعل، كل ما في الأمر أنني أهدي صديقاتي الخمسينيات، كما أهدي نفسي في عيد ميلادي الثاني والخمسين هذه الأفكار، كي أتذكر دائماً بأن أزيد من جرعة السكر عندما يزداد العمر حموضة.
كي أبقى دائماً طفلة تمد لسانها للزمن، مهما أوغل وتجبر.
(القدس العربي)