آلان تورين: عن كتابه “نهاية المجتمعات” |

0

ينطلق آلان تورين من مبدأ أساسي وهو أن أي مجتمع تاريخي (مجتمع متوفر على شروط التطور)، يقوم على دعامتين أساسيتين: مجموعة من الممارسات التي يقوم بها تجاه محيطه (ثرواته الطبيعية والبشرية) وهو ما يسمى الاقتصاد. ومجموعة من التأويلات التي ينتجها حول هذه الممارسات ليعطيها معنى، وهو ما يسمى الثقافة.

وتختلف الأنماط المجتمعية باختلاف هذين العنصرين. فالمجتمعات الدينية تقوم بممارسات دينية وتفكر في نفسها وفق مقولات دينية (تمثلت في الفكر اللاهوتي في القرون الوسطى). والمجتمعات السياسية التي ظهرت مع عصر النهضة، وامتدت حتى القرن التاسع عشر. وقد قامت على أساس ممارسات سياسية (الملك، الشعب، الحرب…). وتجلت التمثلات الثقافية لهذا المجتمع في إنتاج ما كيافيللي وهوبز ولوك وروسو وطوكفيل..؛ والمجتمعات الاجتماعية التي ارتبطت بالثورة الصناعية، والتي اتسمت ممارساتها بالبعد الاجتماعي (الأسرة، الطبقة، النقابة، المدرسة..)، وفكرت في نفسها بمقولات اجتماعية عبرت عنها السوسيولوجيا كما حددها دوركايم بكونها تفكيرا في الاجتماعي بما هو اجتماعي.

كل هذه المجتمعات قامت على توازن بين الممارسات والتأويلات. وكلما حدث اختلال بين الطرفين انتقلنا إلى نمط اجتماعي جديد. وقد حدث مثل هذا الاختلال في المجتمع الصناعي الذي لم يعد مجتمعا اجتماعيا بفكر في نفسه بمقولات اجتماعية. والسبب هو تراجع ممارسة اقتصادية اجتماعية حيث كان الرأسمال المالي يوظف في الميدان الصناعي من أجل إنتاج الخيرات والوظائف ودعم المؤسسات الاجتماعية، وأصبح يستخدم في المضاربات المالية، ومن ثمة أصبح المال يسخر من أجل المال، وليس من أجل إنتاج الثروة. وقد أدى هذا الاختلال إلى إفراغ المؤسسات الاجتماعية من دلالاتها، وأصبح يهدد بنهاية المجتمع الاجتماعي.

هذا الوضع يحمل سمات الكارثة التي أصبحت تهدد المجتمعات الغربية، وقد يدعو إلى الاعتقاد بغياب أي نموذج مجتمعي ما بعد- صناعي.

ومع ذلك يؤمن تورين بوجود بديل إيجابي. ويدعو إلى الاحتفاظ بإحدى الإنجازات الهامة للحضارة الغربية، وهي فكرة حقوق الإنسان في بعدها الكوني.

ويرى تورين أن هناك وقائع تؤكد هذا التوجه الإيجابي. لقد بدأ القرن العشرون عمليا سنة 1989 مع انهيار جدار برلين، ثم مع مظاهرات ساحة تيان أنمن Tian’ anmen بالصين نفس السنة، ووقعت بعد ذلك سنة 2011 أحداث الربيع العربي، ومــظــاهــرات احتلال ساحة وول ستريت بالـولايات الـمـتحدة الأمـريكــيــة، وحــركة احــتــجاج الســاخطين los indignados بإسبانيا. ويشير تورين أيضا إلى دلالة شخصية نيلسون مانديلا كزعيم إيتيقي éthique شديد الشبه بغاندي، والذي حارب نظام الأبارتايد من منظور إيتيقي إنساني كوني، وليس من منظور سياسي أو قومي أخلاقي moral ضيق.

كل ذلك يبين أننا دشنا القرن الحادي والعشرين بحركات اجتماعية ذات مطالب أساسية جديدة، لم تعد مطالب سياسية محدودة بدائرة الدولة وإطارها المؤسساتي، بل مطالب إيتيقية تؤكد على الكرامة الإنسانية في كل مكان، وعلى إعادة الاعتبار للذات التي تحمل سمات مشتركة بين جميع الذوات الإنسانية في كل مكان.

هي إذن نهاية نمط مجتمعي هو المجتمع الاجتماعي الصناعي. لكن تورين يدعو إلى موقف إيجابي يتطلع إلى بديل يتجاوز بؤس الرأسمالية المالية المضارباتية المعادية للمجتمع، ويعيد الاعتبار اللذات الإنسانية في بعدها الكوني. (المترجم).

نص ألان تورين

“نهاية المجتمعات”، دلالة هذه العبارة ليست واضحة منذ الوهلة الأولى. هل تعني أن المجتمعات ستكف عن الوجود؟ من الواضح أن هذا المعنى غير وارد إطلاقا، لأن وضعا كهذا غير ممكن. المقصود بذلك هو ما يلي: كانت هناك مجتمعات، وهي لا زالت قائمة إلى الآن، فكرت في نفسها، وتصرفت على ضوء مفاهيم اجتماعية. قد يبدو هذا أمرا بديهيا. ولكن الأمر ليس كذلك البتة. فقبل ثلاث مئة سنة لم يكن الحال كذلك. قبل ثلاث مئة سنة كنا نعيش في مجتمعات كانت تفكر في نفسها بواسطة مفاهيم سياسية: النظام، السلم، الثورة، التراتبية الاجتماعية، الملك، الشعب… تلك هي المقولات التي كانت تستعمل، لا مقولات مثل إنتاج، رأسمال، طبقة عاملة، إضراب، صراع… كما هو الشأن بالنسبة للمجتمع الصناعي الذي عرفناه خلال القرنين الأخيرين. وقبل ذلك كانت المجتمعات تفكر في نفسها بمقولات دينية. هذا لا يعني أن تلك المجتمعات كانت مجتمعات دينية، وإنما يعني أنها كانت تتحدث عن نفسها وتفكر في نفسها بواسطة مقولات دينية.

حين أتحدث عن نهاية المجتمع، أقصد أن هناك توجها نحو نهاية مجتمع كان يتحدث عن نفسه بمصطلحات اجتماعية، هذا في البلدان الغربية على الأقل. يجب إذن أن نبحث عن مصطلحات أخرى. وأشير هنا بين قوسين إلى أن السوسيولوجيا تجد نفسها في هذه الحالة أمام صعوبة كبرى. والسبب هو أن دوركايم وآخرين قد قرروا أواخر القرن التاسع عشر أن المجتمع هو حصيلة الكيفية التي يشكل بها نفسه، والأفعال التي يقوم بها تجاه ذاته وتجاه محيطه. المجتمع هو الواقع الذي يخلقه هذا المجتمع. ومن هنا الجملة شبه المقدسة عند دوركايم: يجب ألا نفسر الاجتماعي إلا بما هو اجتماعي. إن الاجتماعي غير قابل للتفسير بواسطة ما هو فردي أو فلسفي، أو قومي أو جغرافي.

وأقول من جهتي إننا لم نعد الآن قادرين على تفسير الاجتماعي والممارسات الاجتماعية بواسطة مقولات اجتماعية. لنرفع سقف التحليل قليلا كي تصبح برهنتنا أكثر تعميما. إن المجتمع البشري، الذي يمكن أن أنعته بأنه تاريخي، أي مجتمع يتوفر على إمكانية التطور، أو على خاصية التاريخانية (وهذه كلمة أصبحت متداولة لدى الكثيرين)، هذا المجتمع يتكون من عنصرين: الممارسات من جهة، ومجموعة من التأويلات من جهة أخرى. وهذه التأويلات مرتبطة طبعا بتلك الممارسات. مبدئيا نقول إن الصورة التي يكونها مجتمع ما حول قدرته الخاصة على الإبداع هي التي تحدد تأويلاته. إذا كانت ممارسات هذا المجتمع ضعيفة، فإنه سيبحث لها عن تفسيرات متعالية: لدى الآلهة أو القدر… أما إذا كنا قادرين على تغيير وخلق مجتمعنا، فإننا سنبحث في ذاتنا عن تفسير لهذا المجتمع، وسنجد هذا التفسير في ذاتنا فعلا. فنحن من يحدد مجتمعنا، لا قوة أخرى غيبية أو خارجية بعيدة. إن ما نفعله نحن هو ما يحدد مجتمعنا. لهذا السبب فكرنا في مجتمعنا بداية بمقولات سياسية، ثم بعد ذلك بمصطلحات صناعية، أي مصطلحات اقتصادية واجتماعية في نفس الوقت. كان هناك تطابق هائل بين مجتمع اجتماعي فعلا، ويفكر في نفسه بمقولات اجتماعية. وهذه بالضبط هي السوسيولوجيا. إنها تحليل لهاتين الفكرتين اللتين عبر عنهما دوركايم بصورة جيدة أواخر القرن التاسع عشر.

ماذا حدث بعد ذلك؟ حدثت أمور عديدة، وسنقتصر على أمر واحد منها فقط يبدو لي أساسيا. في سنة 1929، وفي سنة 2007، حدث أمران على درجة عالية من الخطورة. كان المحرك الأساسي لصناعتنا واقتصادنا هو الرأسمال الصناعي. إنه المال الذي يتم توفيره ليعاد استثماره في الصناعة. لكن حدث فجأة أن هذا الرأسمال لم يعد مسخرا للاستثمار في الرأسمال الصناعي، وإنما أصبح يستخدم في المضاربة. لا أقصد الرأسمال المالي. فنحن في حاجة للرأسمال المالي طبعا. لا أحد يزعم أننا قد نستغني عن الرأسمال وعن القروض. لكن بشرط أن توظف هذه الأموال لخلق الوظائف والخيرات الاقتصادية. لكننا لاحظنا في وقت قريب، خلال سنتي 2007 و 2008، أن أغلب رؤوس الأموال المتوفرة – وقد كانت هناك وفرة في رؤوس الأموال- قد استخدمت خارج أي مراقبة وخارج أي مجتمع على المستوى العالمي من طرف قوى لا تخضع على العموم لأي مراقبة أو تخضع لمراقبة ضعيفة. إن الأبناك تخضع للمراقبة، والبورصات تخضع للمراقبة. لكن هناك مؤسسات مالية كثيرة تم خلقها، لا تخضع للمراقبة بتاتا.وتمكن بعض الأشخاص بفضلها من السرقة. ولنأخذ مثلا حالة يعرفها الجميع من خلال الجرائد. إنها حالة ما يسمى “الجنات الضريبية”، حيث لا تتدخل السلطات الضريبية، ولا تؤدى ضرائب عن رؤوس الأموال هاته. هل يمثل هذا أمرا مهما؟ نعم. إن هذه الأموال تمثل ما يعادل الناتج الاقتصادي للولايات المتحدة، وهي أول قوة اقتصادية عالمية، إضافة إلى الناتج الاقتصادي لليابان، ثالث قوة اقتصادية عالميا. إن الأمر لا يتعلق بفعل عابث أو بمقدار مالي نوفره ونخبئه بركن من أركان البيت. أنا مهتم كثيرا بأمريكا اللاتينية. وتعرفون جيدا أن هناك كميات مالية هائلة بكل من بوليفيا، والبيرو، والمكسيك تستخدم في تجارة المخدرات والأسلحة، وأشياء أخرى ربما تعلقت بالمتاجرة في الأعضاء البشرية، كما أظن، ولست متأكدا من ذلك. في جميع الأحوال هناك كميات مالية هائلة تستخدم دون وظيفة اقتصادية. فالمال أصبح يخلق المال، ولم يعد يخلق الخيرات الاقتصادية، ولم يعد يخلق المصانع أو الآلات وغيرها. ونتيجة لذلك، فإن الاجتماعي ما عاد يصل بين التأويلات الكبرى، وهو ما نسميه الثقافة، وبين الموارد، وهو ما نسميه الاقتصاد. إن المؤسسات الاجتماعية، وقد كان هذا مفهوما مركزيا في السوسيولوجيا الكلاسيكية، لم تعد متصلة ببعضها. سأقول، وأنا أزن كلماتي جيدا، لأن ما سأقوله مرعب جدا، إن المقولات والمفاهيم والكلمات المتعلقة بالقاموس الاجتماعي لم يعد لها معنى. هل يمكن أن نفهم بوضوح ما نقصد بالمدينة حين نتحدث عن بوردو أو بومباي أو القاهرة أو لايغوس أو مكسيكو؟ إننا لا نجد بين هذه المدن قاسما مشتركا، والوظائف فيها ليست هي نفسها. وهذا أمر أساسي. خذ مثلا آخر. نعتقد عادة أن التربية والمدرسة قد وجدت لتتيح لجميع الأطفال كل الحظوظ الممكنة، وكل المساواة الممكنة للبحث عن وظيفة، ولتحقيق الرقي الاجتماعي. ولكن الواقع عكس ذلك. فالمدرسة تنمي الفوارق في الحظوظ، ولا تقلصها. وأقدم مثالا آخر أكثر مأساوية. إننا نضع الأشخاص الخطيرين داخل السجون، ونقول إننا بهذا الصنيع سنقلص من نسبة الإجرام. لكن العكس هو ما يحدث. فالأشخاص الذين قضوا سنوات عديدة بالسجون هم الأكثر عرضة للمعاودة ولارتكاب جرائم جديدة. هل تعرفون ما معنى كلمة أسرة؟ أقول هنا دون أن أقصد إلى حكم قيمة: في ما مضى، أذكر حين كنت طالبا أن أساتذة السوسيولوجيا أو التاريخ كانوا يقولون لنا إن الأسرة العادية هي التي تتكون من أب وأم وأطفال. هل هذا هو الوضع العادي؟ في فرنسا اليوم أغلب الأطفال لا يولدون داخل أسرة مكونة من أب وأم. هكذا نلاحظ أن الكلمات تفقد دلالاتها. يمكننا أن نتحدث عن كلمة “ديمقراطية” حتى الغد، سنجد عددا من التعريفات بقدر عدد المشاركين في المناقشة. وبالتالي فإننا لا نعرف على وجه التحديد ما نقصد بكلمة “ديمقراطية” أو “جمهورية” أو غيرها من كلمات كانت محترمة، لكنها فقدت مضمونها الخاص الذي كان يسمح لنا بالتفكير فيها أو الدفاع عنها.

 هناك أمثلة أخرى كثيرة، لكن هذا المثال المتعلق بالمجال الاقتصادي أساسي. فحينما أصبح جزء هام من الموارد، أي رؤوس الأموال، غير مندمج في المنظومة الاجتماعية كي تحوله المؤسسات الاجتماعية وتجعله منسجما مع التوجهات الثقافية الكبرى، هنا فقدت هذه المؤسسات الاجتماعية معناها. إن المجتمع لم يعد مجتمعا. ولكن هذه الفكرة ليست جديدة. فمنذ البداية، انتبه دوركايم، مؤسس علم الاجتماع، إلى ظاهرة سماها التفكك « l’anomie »، ومعناه اختفاء القواعد المنظمة للحياة الاجتماعية. واليوم يلاحظ الجميع استفحال قلة الأدب، وعدم احترام القوانين وقواعد العيش والعادات والتقاليد… لم تعد الحدود واضحة بين المحظور والمباح. ويمثل المكسيك حالة دالة جدا. لقد كنت بالمكسيك قبل بضعة أسابيع، وهناك قال لي أحدهم: إن مأساة المكسيك هي أنك تجد في أيامنا هاته المحظور في قلب المباح. وكمثال على ذلك أن بعض رجال الدرك أو الجيش أو الشرطة يقومون داخل المؤسسة بأفعال تمنعها المؤسسة. فقد يختطفون مثلا شخصا ويطالبون بفدية من أجل تحريره، كما يفعل قطاع الطرق أو تجار المخدرات.

يبدو لي أن هذا الميدان الاقتصادي يشهد تفككا. وقد انتبه الكثيرون لذلك. وعبر إيرون بيرغ، أحد السوسيولوجيين الفرنسيين، عن هذا الوضع بصيغة دقيقة حين قال : إن “الأنا” المتعلقة بكل واحد منا قد تم سحقها تحت الأعباء المفرطة التي تثقل كاهلنا، فتنكسر هذه الأنا وتنهار، ونلجأ إلى الانتحار أو تناول المخدرات، أو نصاب بأمراض عقلية. هذه هي المشاكل التي توجد في قلب السوسيولوجيا حاليا، والتي تبين لنا الأشياء التي لا تسير على ما يرام. لا أقصد المستوى الأخلاقي المتعلق بما يجب فعله وما لا يجب فعله. أنا أقصد ما لا يسير بشكل جيد حسب تعريفنا، وهو أن مجتمعنا لم يعد مجتمعا يعرف نفسه وينضبط ويتصرف على ضوء مفاهيم اجتماعية. على ضوء أي مقولات أصبح يتصرف هذا المجتمع؟ أم أنه افتقد لكل الضوابط على الإطلاق؟ هذا هو السؤال الذي يطرح الآن. أول موقف لنا إزاء هذا السؤال، كما أعتقد، هو أن نقول إن القرن العشرين سيمثل على الأرجح، بالنسبة للمؤرخين في المستقبل، القرن الذي يطرح السؤال التالي: ما الذي سيبقى من كل ما تم بناؤه خاصة خلال القرن التاسع عشر بالعالم الغربي وببعض البلدان الأخرى مثل اليابان وغيرها، من صناعة وميكانيك وتقنية وعلم ومدن كبرى وسكك حديدية وكهرباء…؟ ماذا سيقول المؤرخون عن القرن العشرين بعد ألف سنة؟ وما الذي سيبقى من هذا القرن حينذاك؟ إذا بقيت من هذا القرن كلمة واحدة، ستكون إما كلمة مجردة هي “الحكم الكلي”، أو عبارة ملموسة هي “معادة الشعب”. وهنا سنعاين عملية تدمير للاجتماعي. إننا لا نستطيع أن نزعم أن النظام النازي، أو النظام السوفييتي بمعسكرات الأشغال الشاقة، أو معسكرات ماو تسي تونغ حيث قتل عشرات الملايين من الناس، يشكلون أنظمة لمراقبة أو لتنظيم الحياة الاجتماعية. إنها أنظمة لفرض نظام مطلق، متسلط، بل نظام كلي. فالحزب الشيوعي الصيني يحتكر كل السلطات السياسية، كما يحتكر سلطة القرار في مجال التربية، ويحتكر سلطة الحكم على السلوك الفردي. كانت السلطة السياسية مثلا تمنع إنجاب أكثر من طفل واحد. إن السلطة هنا تتدخل في الحياة الفردية مثلما تتدخل في الحياة الاقتصادية أو الحياة العسكرية في هذا البلد الشاسع. بناء على ذلك، يمكننا أن نقول إن نهاية القرن العشرين تشهد عملية تدمير. سألخص: كيف بدأ القرن العشرون. لقد بدأ بتدمير ما كان يشكل الوحدة الأساسية لمجتمعاتنا، وهو الدولة-المجتمع، أو الدولة القومية. لقد كانت الحرب العالمية الأولى التي نخلد اليوم مئويتها الأولى تدميرا لأوروبا التي خلقتها واعترفت بها معاهدات ويستفالي Westphalie سنة 1648. كذلك كان الاحتلال النازي خلقا لإمبراطورية نازية، وإزالة لبولونيا، وإنشاء لمعسكرات الاعتقال، ومعسكرات إبادة اليهود أو الغجر أو أسرى الحرب الروسيين أو المثليين…

الفكرة الأولى القوية إذن هي تدمير المجتمعات الاجتماعية، حتى لا أقول المجتمعات المتمدنة. وهكذا نعود من جديد إلى حالة الهمجية بتعبير ماركس. والسؤال الذي يطرح علينا نفسه الآن، وهو السبب الذي دفعني لكتابة هذا الكتاب الضخم الذي يريد أن يقول أشياء كثيرة، هذا السؤال هو: ما هو الشيء الذي يمكنه اليوم أن يعوض القوانين؟ والحال أن عالمنا يشهد خضوع البلدان المستعمرة سابقا لأنظمة حكم استبدادية، لا صلة لها بالديمقراطية. وفي البلدان التي شهدت حركات عمالية كانت تطمح للديمقراطية، هناك أنظمة شيوعية غير ديمقراطية. وفي البلدان التي عرفت رأسمالية صناعية كانت تخلق الخيرات والثروات، أصبحنا نجد مضاربين يبددون نتائج العمل الممثلة في مئات المليارات من الدولارات أو اليورو التي تراكمت بفضل جهد عدة بلدان خلال عدة سنوات.

من جهتي، أقدم بحذر الزعم التالي: إننا نواجه تصاعدا كبيرا للااجتماعي وللوحشية والعنف والتسلط والاستبداد. في مثل هذا الوضع يصبح من غير المجدي أن نستنجد ببعض الحقوق الفردية السياسية كالحق في التصويت، أو الحقوق الاجتماعية كالحق في الانتماء النقابي والحماية في الشغل، أو الحقوق الثقافية كالحق في استخدام اللغة التي أريد، أو في الحرية الدينية أو الحرية الجنسية (في مكانها الطبيعي). لقد علمنا التاريخ أن هذه الحقوق قد تبخرت في الهواء. عشية الحرب العالمية الأولى، عقد العمال التشيك مؤتمرهم النقابي، وطرحوا السؤال التالي: من نحن أولا؟ هل نحن عمال بتشيكوسلوفاكيا، وبالتالي يجب أن نعطي الأولوية لوعينا الطبقي؟ أم أننا تشيكيون أولا، وبعد ذلك عمال إلى جانب فلاحين أو أطباء أو محامين تشيكيين… الجواب تعرفونه. لقد أجابوا جميعا: نحن أولا تشيكيون، ونريد أن نحارب ضد الألمان أو النمساويين أو الهنغاريين، حسب ما تمليه الظروف التاريخية.

سأختم بهذه الجملة التي ربما كانت فارغة، ولكنها أساسية بالنسبة لي: يجب أن نحتفظ من النموذج الغربي – رغم كل الشرور التي أحدثها، ورغم تناقضاته مع ذاته – يجب أن نحتفظ بشيء إيجابي أساسي خلقه هذا النموذج. يتعلق الأمر بفكرة “الكونية”. وهي الفكرة التي جاءتنا من الإغريق ومن المسيحية ومن فلسفة الأنوار، والتي تشكل إسهامنا الكبير الذي قدمناه للإنسانية. ويجب أن نكون قادرين على تعبئة فكرة “الكونية”. ولدينا أمل في كونها أقوى، نظريا، من أي نظام استبدادي أو حكم مطلق. يجب إذن أن نقوم بتعبئة مبدأ غير اجتماعي، غير ذي طابع قانوني، بل وغير أخلاقي moral. إنه أكثر من ذلك. سأسميه مبدأ إيتيقيا éthique، أي مبدأ كونيا. وقد لاحظنا خلال العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة، ولاحظ كثير من المؤرخين والفلاسفة السياسيين أيضا عودة هائلة وقوية، نوعا من التسونامي، لمبدأ حقوق الإنسان الأساسية. وقد قرأت هذه الفكرة لدى كاتبين أحبهما كثيرا، أحدهما كان صديقا عزيزا هو فرانسوا فوري François Furet، في آخر أعماله المنشورة، وقد كان عبارة عن نقط من أجل حوار مع بول ريكور. وقرأت ذلك أيضا عند شخص آخر، مؤرخ وفيلسوف سياسي هو مارسيل كوشي Marcel Gauchet، وهو صاحب أفكار تتعارض مع أفكاري تعارضا تاما، ولكنه يقول: حقا لقد شهدنا نوعا من التسونامي، وهو الحركة الوحيدة الكبيرة. ونعرف الحركة المضادة، وهي معاداة الأجانب، العنصرية، الفوبيا تجاه العرب، معاداة السامية…الخ. لكن هناك قبل كل شيء تأكيد مطلق على فكرة تنطبق على الجميع، وهي الفكرة الأكثر بساطة والأكثر جمالا، وهي الدعوة إلى احترام كرامة الإنسان. وهي فكرة لا علاقة لها لا بالثروة ولا بالنفوذ و لا بأي تقليد ديني.

سأختم بتعريفين. أولهما وهو الأجمل، سأذكره لأنه ليس لي. إنه تعريف لحنا أرندت Hanna Arendt، حيث تقول: إن ما يميز الجنس البشري هو أنه الكائن الذي يمتلك الحق في أن تكون له حقوق. وأضيف من جهتي: إن الحقوق الأساسية تعلو على كل شيء، بما في ذلك القوانين؛ إن الحقوق فوق القوانين. هذا هو ما سوف يشكل نقطة انطلاق جديدة كما نأمل. ولتسمحوا لي بأن ألعب دور المؤرخ قليلا. يقال غالبا إن نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين هي فعلا 1989. هذا صحيح. فماذا تعني سنة 1989 بالنسبة لي؟ إنها التجلي للحركتين الكبيرتين لتحرر الذات الإنسانية: سقوط جدار برلين سنة 1989، والمظاهرات الكبرى بساحة تيان أنمن Tian’anmen بالصين بنفس السنة. وبعد سنوات من ذلك نجد الربيع العربي، وبدرجة أقل حركة الساخطين los indignados، وكذا مظاهرات احتلال وول ستريت بالولايات المتحدة.

هكذا يمكن القول: إننا دخلنا القرن الحادي والعشرين من بوابة القضية الكبرى التي تتجه أساسا نحو إعادة إبراز الديمقراطية التي بدا حتى وقت قريب وكأنها قد دمرت على صعيد العالم الغربي.

*ترجمة مصطفى ناجي

*منقول عن موقع الموجة

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here