آخر صيف في سوريا واحتكامي لـلغة الحب السادسة

0

ترجمة ربى خدام الجامع

للحب لغات خمس برأي الكاتب غاري تشابمان، تتلخص بكلمات التأكيد، والأوقات الممتعة، وتلقي الهدايا، واللمسة الحانية، وخدمة الناس.

وهنا أود أن أضيف لغة سادسة، ولنسمها: “حميمية الواتساب“، إذ بالنسبة لأناس مثلي ومثل عائلتي الكبيرة التي تسودها المحبة، لم يعد بوسعنا أن نلتقي بسبب الحرب.

أصولنا تعود إلى سوريا، إذ عندما كنت طفلة صغيرة، كنت أمضي الصيف في دمشق متنقلة بين بيوت يملكها أهلي أتذكرها أيام الطفولة والشقة التي اشتريناها عندما ولد شقيقي، أما الشتاء فكنا نمضيه في الولايات المتحدة التي هاجرت أسرتي إليها.

إلا أن كل ذلك انقطع على حين غرة عندما اندلعت الحرب. كنت في الثامنة من عمري وقتها، لكني أخذت أراقب أمي وأبي وهما يهرعان للاتصال بأقاربنا الذين يعيشون في سوريا، كانت تلك المكالمات قصيرة ومقتضبة، ويشوبها الخوف من أن يطويها القلق وأمور أخرى يعجز اللسان عن ذكرها.

كان أول شيء فعلته بعدما استوعبت تلك الحقيقة هو استعادة ألبوم الصور الذي جمعناه أنا وأمي لما تبين لنا فيما بعد بأنه آخر صيف لنا هناك. إذ بالنسبة لي، لم تكن سوريا بلداً، بل كانت مجموعة من البيوت التي تعود لأشخاص مثل عمتي، وعمي، وابنة خال أمي التي تكره أن يجلس أحد على الأرائك لديها وهو يرتدي ثياب الخروج.

عندما فتحت أنا وأمي على الصورة الأخيرة الموجودة في الألبوم، والتي يظهر فيها أبي وأخي وأنا في مطار دمشق وسط كومة من الحقائب، ونحن نلوح للكاميرا، شرعت أمي بالبكاء، إذ لم نكن ندري حينها كم مرة سيغتال ذاكرتنا هذا الوداع المرح.

وبمرور الوقت، وتغلغل الحرب في البلد، أصبحت عائلتي تبحث عن طريقة أقل خطورة وأكثر استمرارية للبقاء على تواصل بشكل يتغلب على قصور المكالمات الهاتفية ومحدوديتها وكذلك على حالات الصمت التي يشوبها التوتر، ومنذ ذلك الحين أنشأت العائلة مجموعة لها على واتساب.

لم أشارك في تلك المجموعة في البداية، إذ لم يكن عمري مناسباً لاقتناء هاتف خاص بي، ولكن آخر الأخبار كانت تصلني من خلال والدي ووالدتي حيث كانا يعرضان علي الصور ومقاطع الفيديو التي يشاركها أفراد عائلتي عبر تلك المجموعة.

ومن جانبنا، كان أهلي يبحثون عن جوانب من حياتنا في أميركا تستحق المشاركة، بعدما أصبح كل ما هو عادي استثنائياً فجأة، مثل رحلتنا براً من نيوجيرسي إلى ماساشوستس، والثقب في جورب أخي الذي خلف بقعة زرقاء وحيدة متسخة على قدمه.

كنا نشعر بالسعادة ونحن نلتقط تلك الصور التي تعبر عن تفاصيل حياتنا والتي أصبحت لها أهمية كبيرة، فقد غدت مسألة تقطيعي لحبة أفوكادو ناضجة أو رسمي لوجه على علبة مناديل أمراً يستحق التوثيق، كما أصبحت عملية الذهاب إلى المتجر الكبير بمثابة عمل تاريخي بما أننا صرنا نصور مقاطع فيديو لكل مكونات عشاء تلك الليلة.

قالت أمي بالعربية بما أنها اللغة المستخدمة في هذه المجموعة: “يا ليتكم هنا معنا، يلا، تعالوا حتى نأكل من هذا، لدينا صلصة”.

عندما بلغت الرابعة عشرة من عمري، حصلت على هاتف خاص بي وصار بوسعي الانضمام إلى مجموعة الواتساب تلك، بما أن هذه هي اللحظة الحقيقية لبلوغ السن القانونية بالنسبة للأطفال الذين يعيشون في المغترب. وهكذا صار بوسعي أن أستمتع بدفء وجود العائلة كما يحلو لي، حيث أخذت أشاركهم يومي بالقدر الذي أريده، وأنقر للخروج من هاتفي عندما أكتفي من ذلك.

في البداية، اعتقدت بأنه من الممتع وجود طريقة للتواصل مع عائلتي، ولكن سرعان ما تحول ذلك إلى عمل اعتيادي ضمن قائمة الأعمال التي أقوم بها بشكل يومي، حيث كنت أغسل الصحون، وأطوي الغسيل، ثم أرسل ملصقاً جديداً وجميلاً على المجموعة لأوصل لمن فيها بأني لم أنسهم.

ولكن، إن كانت لديك عائلة ولا تستطيع أن ترى أياً من أفرادها، فهل هذا يعني أن تلك العائلة موجودة فعلاً؟

كان ذلك السؤال يتوارى خلف ردودي المستمرة، ويهمس لي من خلف طنين هواتفنا الذي لا ينتهي. كان ثمة خوف من النسيان يعشش داخلنا ونحن نعد أيامنا وهواجسنا، وذلك لأن عدم الرد على المجموعة يعني وصولها لمرحلة الجمود بمرور الوقت. لذا بالرغم من مرور لحظات علي سئمت فيها من المحادثات الاعتيادية التي كنا نجريها، إلا أني كنت أدرك أيضاً بأن الملل والسأم جزء من تلك الفكرة، لأن الملل يعني بأننا محظوظون لأننا ننعم بحالة الأمان التي يخلقها الروتين.

في بعض الأحيان، كان أعمامي وعماتي يأخذون التواصل المستمر إلى موضوعات أبعد بكثير، حيث كانوا يرسلون صوراً لساق أحدهم وقد أصيبت برض بعدما اصطدمت بطاولة، أو لأنف ينزف دماً (بسبب ارتفاع الحرارة والجفاف)، أو لجرح في وضعية معينة التقطت له صورة تحت إضاءة مناسبة. وفي بعض الأحيان، كنت أتفقد الرسائل في الصباح لأكتشف صورة لعصير أريق كتب عليها: “لقد أرقت كأس العصير الخاص بي”.

ولكن حتى في تلك اللحظات من الألم أو العفوية، كانت أسرتي تحول ذلك لأمنية تحلم بالاجتماع ولم الشمل، وذلك عندما يقول أحدنا: “عسى الله أن يجمعنا من جديد حتى أساعدك في تنظيف ما انسكب”، أو: “أتمنى أن نجتمع في يوم من الأيام حتى لا يصاب أي منا بجرح”. كانت الهفوات والأخطاء تحدث برأي أفراد عائلتي بسبب افتقادنا لذلك الدفء العائلي المألوف، إذ كنا نفتقد لسحره، ولإحساس الحماية الذي يخلقه، ولقوته الشافية.

عندما تمكن المزيد من أفراد عائلتي من الفرار من سوريا، والاستقرار في كل من تركيا وكندا والسعودية، تحولت مجموعتنا على الواتساب إلى مقر لإقامة حفلات الأعراس، ولحضور أول حمام للصغار الرضع، ولإقامة طقوس الجنائز. إذ عندما تزوجت ابنة عمي في الولايات المتحدة، تبادلت هي وزوجها الرقص مع أمها الموجودة في سوريا، وذلك عبر تحريك شاشة الجهاز وفقاً لإيقاع الموسيقا، وهكذا أخذ مكبر صوت جهاز الآيباد يئز ويطقطق لينتشر صداه في أرجاء البيت الذي احتضن طفولتها.

عندما وضعت ابنة عم أخرى مولودها الأول، أخذت تراقب ابنتها وهي تحاول التعرف على جديها بوصفهم صوراً يمكن استحضارها ووضعها على الطاولة، كما يمكن لها أن تسقط وتتبعثر. وعندما توفي عمي، بقيت رسالته الأخيرة في مكانها لأيام ضمن تلك المجموعة، والتي كانت عبارة عن صورة لقطته وهي تنام القيلولة وسط الغسيل النظيف، وذلك قبل أن يبعدها عن ناظرنا سيل من المحادثات الجديدة.

وعندما بدأت الجائحة تتفشى، واضطر الجميع للبقاء في بيوتهم، التفت الناس إلى تطبيق فيس تايم، وآي ماسج، وزووم، وواتساب وذلك للاستمتاع بألعاب الإنترنت، ولمشاهدة الأفلام بصورة جماعية، واختبار أمور جديدة وتوثيق تلك التجارب سوية.

خلال الشهور الأولى للحجر، ووسط التساؤلات التي تدور حول: “ماذا نفعل حتى نبقى على اتصال؟” والتي بقيت تطرح على الدوام خلال جلسات الزووم التي تقيمها مدرستي الثانوية، تذكرت كل ما جرى على مدار السنوات الإحدى عشرة الماضية والتي تعلمت منها كيف أخلق وطناً لي عبر أثير الإنترنت، إذ هذا ما حدث عندما رغبت أنا وابن عمي، وكان كلانا في الثانية عشرة من العمر، أن نلعب لعبة تعتمد على رقعة وأحجار عبر تطبيق سكايبي، وذلك لنعوض ليالي اللعب واللهو التي كنا نمضيها في سوريا، وهكذا وبوجود رقعة لدى كل منا، صرنا نحرك أحجارنا ونقتل أحجار الطرف الآخر، وحددنا جولتين من اللعبة ذاتها، وعندما بلغنا منتصف اللعبة، ظهرت أمي ضمن إطار الشاشة لتخبرنا بأن سكايب قلب الشاشة وهي تقول ضاحكة: “إنكما لا تلعبان اللعبة ذاتها”، وهكذا طوى كل منا رقعته وأنهى المكالمة.

وفي الوقت الذي حاول فيه الآخرون إيجاد بديل عن العناق والقبل، أو عن الليالي التي يمضونها وهم يعدون طعام العشاء أمام بعضهم البعض خلال فترة الحجر، كنا نواصل ما أمضينا سنوات ونحن نتعلمه، ألا وهو تسجيل وتوثيق حياتنا في البيت عبر تطبيق واتساب، وخلق حالة من المحبة والألفة تصل إلى معظم نواحي حياتنا يوماً بيوم.

لقد أدركنا بأن بقاءنا على اتصال لا يعتمد على مجرد البحث عن شيء لنقوله للآخرين، بل إن الأمر يتعلق بحمل كل هؤلاء الأشخاص معك ليرافقوك وأنت تعيش حياتك، والبحث عنهم في كوب العصير الذي تريقه من غير قصد، وفي الدماء التي تجري في أوردتك وعروقك.

إن كان الحب حاجة إنسانية، فلقد نجحت في تلبية تلك الحاجة من خلال عالمي المتناثر عبر صور لمقاطع موجودة في كتب، ولأنف ينزف دماً، ولرسائل نصية للتهنئة بالمواليد الجدد أو للتعزية عند وفاة أحدهم، ولأسئلة حول البرنامج المفضل الذي يتابعه غيري عبر التلفاز، وللسبب الذي يجعل من طنجرة الضغط التي لدى أحدهم أفضل من غيرها.

كما نجحت في تلبية احتياجات الآخرين ولو عن بعد، وذلك عبر التفكير بهم وأنا أمضي أيامي، من خلال ما أعيشه وأختبره وأحسه وأخلقه، وفي توثيق حياتي من أجلهم، وفي حملهم معي طوال تلك الرحلة.

إن كان الحب حاجة إنسانية، فإن خبرتي في الحب تتلخص بوضع سماعات على أذني أثناء ركوب الحافلة، وسماع الرسائل الصوتية التي ترسلها خالتي، وأنا أعرف بأنها نائمة في ذلك التوقيت هناك، في الطرف الآخر من العالم. أما طعم المحبة فسيكون دوماً شبيهاً بالغداء في المدرسة الذي أقوم بتصويره ومشاركته، بصرف النظر إن كان يعجبني أم لا وأنا أتناوله. إن للحب رائحة شبيهة برائحة الأحذية المهترئة التي أكتب عنها رسالة وأرسلها لتلك المجموعة، بعد أن يكون نعلها قد سقط مني أثناء السير، أو إنه أشبه برائحة القهوة العربية التي يرسلها خالي لي على شكل ملصقات، وهو يتمنى لي صباحاً سعيداً عند الساعة الواحدة ليلاً بتوقيت المكان الذي أعيش فيه.

إن كان الحب حاجة إنسانية، وأنا أعرف أنه كذلك، فلابد وأن يبدو كمجموعة عائلية على الواتساب، تتصف بأنها خالية من الرتوش والتعديلات، وسخية وفوضوية، ومملة، بل إنها أسلوب للتعبير عن الإيمان بطريقة أو بأخرى.

*كتبت المقال ليلى فرج كنجاوي طالبة في كلية بارنارد بنيويورك والفائزة بجائزة أفضل مقال عن الحب عبر الإنترنت

*تلفزيون سوريا نقلا عن نيويورك تايمز